توطئة
"اختصارا للملايين الذين قتلوا—مجهولي الهوية"
لنبدأ بدعوة الموتى في النهاية—نهاية الحرب الاهلية و نهاية كتاب والت ويتمان الذي جمع فيه ما كتبه من نثر و اعطاه العنوان "مذكرات الحرب"، حيث كتب فيه اطول جملة يكتبها. كانت الجملة طويلة جدا لدرجة انه كتبها في البداية كقصيدة، مستخدما طريقته في التعداد لإحصاء الموتى. و بدلا من استخدام الاسطر الطويلة لاستيعاب الذات المتحركة و المتقدمة مع الامة و مع الكون في اغنيته، كما فعل في الطبعات المنشورة قبل الحرب لديوانه "اوراق العشب"، فهو الان يصنف الموتى. نستطيع ان نجد قطع من هذا التعداد في شعر ويتمان عن الحرب، لكن ليس بهذه الطريقة المؤثرة كما هو الحال في جملته الطويلة، حيث اكتشف تركيبا نحويا للموت الجماعي، جملة لا يمكن تخطيط تركيبها و هي تتجول في اطلال الامة من اجل جمع "الموتى الذين لا عدد لهم" متوقفة مرة تلو الاخرى لاستيعاب الرعب الحاصل، و تفاصيله و الاعداد التي لا تحصى للموتى الشباب الذين خدعت اجسادهم القبور و عادت لتحلل و تصبح جزءا من الارض نفسها. تدفن جملته سبعة عبارات اعتراضية بين اكثر من ثلاثين اشباه الجمل، ليخلق حقلا نحويا فيه خنادق حربية. و هذه الجملة المذهلة تنتهي بعد 400 كلمة لتكون مجرد اشلاء جملة و ليس جملة كاملة. و اكتشف ويتمان بأنه ليس هناك من طريقة لتنبأ هذا الفاعل: "الموتى في هذه الحرب". اعداد الموتى الذين لا عدد لهم هم انفسهم لا يستطيعون الحراك، و هم انفسهم اشلاء اجساد، مبتوري الذات، و لا يمكن استرجاعهم، اشبعوا الارض الامريكية التي نعيش عليها الان و التي من المقدر لها ان تحصد للابد محصول الموت، و الدماء تغطي كل حبة نأكلها.
ويتمان اعطى هذا المقطع من كتابه "اختصار الملايين الموتى" مستخدما اسلوبه المميز في الاختصار و التملك و الذي يخلق هنا غموضا لغويا حيث ان الجملة بكل ما تحصيه و بيانات الموتى فيها تعطينا بالفعل مختصرا عن موتى الحرب الاهلية، لكن الاختصار يدعونا بالفعل لملأ بعض الحروف الناقصة، و نحن نكتشف ان جملة الموت هذه حرفيا تستدعي الموتى، لتذكرنا بوجودهم المادي الفعلي في الارض كلها، شمالا و جنوبا، و الاصرار على ظهورهم في كل شيء ينمو من التربة التي تحللوا فيها. انهم ملايين الموتى قد تم استدعائهم. (يذكرنا هنا ويتمان بأول كلماته في الكتاب، حيث يخبرنا بطريقته التي استخدمها لكتابة كتابه: "كل سطر، كل رسم، كل مذكرة، لها تاريخها....من بين هذه السطور تظهر اشكال على قيد الحياة تتنفس. يتم استدعائهم حتى في هذه الغرفة الصامتة و الفارغة التي اكتب فيها، ليس فقط الفيالق و الفرق العسكرية، وهم سائرون او في المعسكر، لكن اشباح من سقطوا صرعى و دفنوا بسرعة...")اذا فهرسة ويتمان هو اختصار و استذكار، ليس فقط للموت لكن ايضا للأحياء، الذين تم استدعائهم لمشاهدة الموت الجماعي و بالرغم من هذا يبدو مزعجا، الا انهم يمكن ان يستوعبوه و يعيشونه و يضعونه امامهم.
الحرف المفقودة في عبارة summ'd قد يصبح اي شيء: متما يبدأ الغياب بأخذ ما كان هناك اصلا، يبدأ الغياب بالمطالبة بالمزيد. و فجأة ندرك بان الحرف المفقود ممكن ان يكون ثلاثة حروف و يمكن ان تصبح كلمة one كما في كلمة summoned . هذه الكلمة المفقودة هي تحديدا ما كان مفقودا من تلخيص ويتمان للموتى، حيث تختفي الهوية الفردية ضمن الموت الجماعي: "نحن نرى...على النصب التذكارية و شواهد القبور، منفردة او جماعية، الى الاف او عشرة الاف، الكلمة المهمة مجهول الهوية". مهما كان الذي سيتحقق من استذكار او استدعاء الموتى، فالذي لا يستطيع القمح و الازهار انتاجه هو ذلك الفرد الذي فقدناه، الفرد الذي اسمه و هويته قد ضاعت في "الموتى المجهولين"—عدد لا يحصى من الافراد. نستطيع تلخيص الافراد الى مليون، لكن لا نستطيع استدعاء الفرد من ذلك المليون. هذه هي الخسارة التي على ويتمان مواجهتها في كتابته بعد الحرب الاهلية و هو يحاول اعادة بناء الامة التي مزقتها الحرب".
ايد فولسوم
اختصارا للملايين الذين قتلوا—مجهولي الهوية—الذين هلكوا في هذه الحرب—هنا يرقدون—منتثرين كالبذور في الحقول و الغابات و الوديان و ميادين المعارك في الجنوب—فيرجينيا، شبه الجزيرة—مالفرن هيل و فير اوكس—ضفاف تشيكاهوميني—مدرجات فريدريكسبيرغ—انتيتيم بردج—الوديان المروعة في مناساس—مدخل البرية الدموي—مختلف الموتى المشردون، (الوزارة الحربية قدرت 25 الف من جنود الجيش الوطني قتلوا في المعركة و لم يتم دفنهم على الاطلاق، 5000 اغرقوا في البحر—15 الف اما دفنوا من قبل غرباء او دفنوا بسرعة اثناء زحف الجيش، و في مواقع لم اكتشافها،--2000 قبر تغطت بالرمل و الطين من نهر المسيسيبي، 3000 حملتهم ضفاف النهر بعيدا و هكذا—غيتيسبيرغ، الغرب، الجنوب الغربي—فيكسبيرغ—تشانوغا—خنادق بيترسبيرغ—و المعارك و المعسكرات و المستشفيات التي لا تعد ولا تحصى في كل مكان—ملائكة الموت حصدوا محصلوهم، التيفوئيد، دزنتري، التهابات—والاكثر فظاعة من هذا كله مقابر دفن الاحياء في سجون اندرسونفيل، ساليسبري، بيلي ايل (الجحيم الذي صوره دانتي بكل بشاعته و كل يتضمنه من مشاق و تعذيب يتفوق على هذه السجون)—الموتى ثم الموتى ثم الموتى—موتانا—او الجنوب او الشمال، ما نملكه كله، (كله ثم كله ثم كله، اخيرا عزيزا علي)—او الشرق او الغرب—الساحل الاطلسي او وادي المسيسبي –البعض زحفوا للمكان الذين توفو فيه، كل وحده، في الاشجار، في الوديان او على جوانب التلال—(هناك، في مكان معزول، هياكلهم العظمية، عظامهم المبيضة، و خصل الشعر، الازرار و بقايا الملابس يمكن العثور عليها ربما)—شبابنا الذي كان يوما وسيما جدا و فرحين اخذوا منا—الابن اخذ من امه، الزوج اخذ من زوجته، الصديق العزيز من صديقه—تجمع قبور المعسكرات، في جورجيا، في كارلوينا و في تينسي—القبور المنفردة في الغابات او على جانب الطريق (مئات و الاف طمست اخبارهم)—الجثث طافت على الانهار، و امسكت و دفنت (عشرات او اكثر في ابر بوتوماك، و بعد معارك الفرسان، وراء منطقة لي و تتبع غيتسبيرغ)—و بالبعض استقر اسفل البحر—المقابر المليونية العامة و المقابر الخاصة في كل الولايات –القتلى الذين لا ينتهون—(كل الارض اصبحت مشبعة، معطرة بأنفاس رمادهم الخفي في كيميائية الطبيعة المتحللة، و سوف تظل هكذا للابد، و كل حبة حنطة او ذرة، و كل زهرة تنمو و كل نفس هواء نستنشقه)—ليس فقط موتى الشمال يشبعون ارض الجنوب—الاف، بل عشرات الاف، من الجنوبيين، يسقطون الى اليوم على ارض الشمال.
و في كل مكان بين تلك القبور—في كل مكان في العديد من مقابر الامة للجنود، (هناك اكثر من سبعين مقبرة)—كما هو الحال في الخنادق الكبيرة، و مستودعات القتلى، شمالا و جنوبا، بعد المعارك الكبيرة—ليس فقط حيث حيث سار الاثر اللاذع خلال تلك الاعوام، و تشع منذ ذلك القوت في كل الربوع المسالمة للارض—نرى و من ثم نرى و سوف نرى لعصورا اخرى ستأتي، على النصب التذكارية و على شواهد القبور، المنفردة و الجماعية، الى الاف او عشرات الاف، تبقى الكلمة المهمة
المجهول
(في بعض المقابر تقريبا جميع الموتى مجهولين. في ساليسبيري، كارولينا الشمالية، مثلا، الجنود المعروفي الهوية هم 85 فقط بينما مجهولي الهوية يصل عددهم الى 12027 و 11700 من هؤلاء دفنوا في الخنادق العسكرية. و ضع لهم نصب تذكاري بأمر من الكونغرس ، لجعل تلك الارض—لكن هلي هناك من نصب يمكن له فعلا ان يخلد ذكرى هذه الارض؟)
و انا اكتب هذا الاستنتاج—في الهواء الطلق، في اواخر يونيو 1875، في عصرية يوم لذيذ، كل شيء يبدو جميلا و مشرقا بعد امطار الليلة الماضية—مرت عشرة اعوام او اكثر منذ تلك الحرب بكل امواتها و مقابرها و مدافنها. (هؤلاء هم مذكرات الحرب الحقيقية—دون صوت، رقيق و خالد للابد). من عشرة اعوام من المطر و الثلج، في كل المواسم—العشب، و النفل، و الصنوبر و البساتين و الغابات—من كل المعجزات الصامتة للأرض والشمس و الماء—مسالمة و جميلة تظهر لنا الارض حتى خنادق المعارك و العديد من مئات الاف و تلال المقابر! حتى اندرسوفيل، تبدو اليوم بريئة مبتسمة. (اخر الروايات تقول، "الحصن بدأ بالاضمحلال و نمت عليه اشياء اخرى، و بعد موسم اخر سوف ينتهي تماما، لكن لن ينتهي من قلوبنا و ذاكرتنا. خط الموت الذي عبره العديد من الجنود الشجعان نحو حرية الخلود بدلا من تحمل مشقة الحياة، يمكن ان نقتفي اثره هنا و هناك بعد ان اختفت كل العلامات القديمة في العشر اعوام الماضية. الابار الخمسة و الثلاثين، التي حفرها الاسرى بالأكواب و الملاعق، بقيت حيث تركوها. و الربيع الجميل الذي اكتشفناه في احد الايام بعد العاصفة ممتدا لينا من التل لا يزال يعطينا مياهه العذبة و النقية مجانية كما كانت و ستظل. المقبرة، بكل قبورها الثلاثين الف، تقع اسفل التلة الجميلة. على و على البقعة الهادئة ، اخذت الاشجار تعطي ظلالها الباردة و التي كانت لتصبح ملاذا للمساكين الذي انتهت حياتهم تحت سنايا الشمس الحارقة").
الان، و انا افكر في هذه الامور—على قبور موتى الحرب، كما لو كنت على المذبح—الى ذكرى هؤلاء، في الشمال او الجنوب، اغلق و اهدي كتابي هذا.
خاتمة
المعنى الحقيقي لكلمة مذكرات هو ان نتذكر. ربما تكون على شكل رسالة قصيرة، تسجيل او وثيقة مكتوبة، مراسلات دبلوماسية، تلخيص لشروط صفقة تجارية، او صفحة في مادة منشورة لتكريم ذكراه شخصا ما قد مات. مذكرات الحرب لوالت ويتمان توظف كل هذه الاشكال لتذكر الماضي و اخر ما قدمه في الكتاب "اختصارا للملايين الذين قتلوا—مجهولي اللهوية" هي مقطع من جملة طويلة كشاهد على مدى الدمار الذي تسببت به الحرب الاهلة، رعب الدماء التي سالت على ارض المعركة في غيتسبرغ، فيكسبيرغ، تشانوغا، بيترسبيرغ، انتيتيام، مانساس، البرية و ما خلفها، عفن المعسكرات و و المستشفيات، و اكوام الاعضاء المبتورة، و كل الرجال الذي يموتون من التيفوئيد و الدزنتري، و صمت حفر المدافن—"الموتى، الموتى، الموتى، موتانا نحن—في الشمال او الجنوب، كلهم نحن (جميعهم، جميعهم، جميعهم، في النهاية غالين عندي)"—جميعها تؤدي بنا الى المقابر العسكرية و عدد لا حصى من القبور لا تحمل سوى كلمة واحدة "مجهول الهوية". في وجه اكبر مأساة امريكية، و التي لا يزال صداها يشكل الحكومة و الصورة التي نعطيها للعالم، يقوم ويتمان باستدعاء القتلى الملقاة جثثهم على الارض، بدون ان يقوم بتسميتهم، لان هذا من المستحيل فعله، ولكن من اجل تكريمهم و تذكر الدور الذي قاموا به في الصراع الذي سيظل يترك اثره على هذه الارض و على هذا الشعب.
كان اسم اخيه على قائمة الضحايا من مدينة فردريكسبيرغ في ديسمبر 1862، هو الذي الهمه للذهاب الى فلامواث، في فيرجينيا من اجل ان يجده. و بعد ان ارتاح عند معرفة ان اصابة اخيه في وجهه لم تكن عميقة، اكتشف ويتمان في المخيم العسكري الشتوي لجيش بوتوماك بأنه قد دخل الى عالم جديد من "الامور السيئة" كما وصفها في رسالته الى رالف والدو ايمرسون "بعد ان ارهقه الطباعة او الكلام". و اخذ حينها يكتب ملاحظاته "مذكرات الاسماء و الاشياء و غيراها" من اجل تذكر ما يراه و ما يعيشه. "الذي سوف اسجله هنا—هو ملك الزمن و لكل الولايات—(و ربما ملكا لي". انتقل من المعسكر الى واشنطن العاصمة حيث قضى وقت فراغه في السنوات القادمة يعالج الجرحى و يعتني بمن يحتضر—يكتب الرسائل الى الشباب و يجلب لهم الهدايا، يمسك بأيديهم، و يعطيهم قبلة اخيرة، يبقى معهم حتى النهاية.
الكثير بقي مجهولا خلال الحرب: كيف قام ويتمان بمصالحة و جمع قصيدته لفترة ما قبل الحرب "اغنية نفسي" مع الموت الجماعي؛ كيف غير اعلان التحرير التجربة الامريكية في الحرية؛ كيف استطاع تقبل اغتيال ابراهام لينكولن—و هو الرجل الذي اعتاد شاعرنا على رؤيته في جولاته اليومية حول المدينة؛ كيف قام بإعادة انشاء روحه و روح امته. من الاربعين دفرت ملاحظات ملأها ويتمان في المستشفيات او في عمله الاضافي في مكتب الشؤون الهندية ، قام ويتمان بتشكيل "تاريخا مميزا لتلك السنوات" و التي توجت بهذه الترنيمة لضحايا مجهولي الهوية: ما جمعته رحلته الغامقة و العميقة الى قلب هذه البلاد الضخمة غير المعروفة.
سؤال
كل الحضارات الانسانية طورت عبر السنين طرقا مختلفة لتخلد و تكرم و تحزن و تتذكر مواتها. طقوس الحداد و الذكرى تعمل بأفضل طريقة عندما يكون التركيز على شخص واحد. الموت الجماعي—الذي يحصل بسبب الحرب، و الكوارث الطبيعية، او الحوادث—يخلق تحديا مختلفا كما يوضح لنا ويتمان عندما يحاول "اختصار" مئات الاف من القتلى في الحرب الاهلية الامريكية. كيف حاولت وسائل الاعلام الحديثة مواكبة طقوس الحداد، و تكريم و تخليد ذكرى الموت الجماعي؟ هل من الممكن تخليد ذكرى و تكريم الافراد الذين ماتوا في حادثة موت جماعي؟
اجب عن السؤال في مربع التعليق ادناه او على صفحة ويتمان في الفيسبوك.