توطئة
قرر ويتمان ان يختتم الجزء الثاني لديوان "قرع الطبول" بقصيدة عن تحشيد الجنود. من خلال تخيل نفسه كجندي مرة اخرى، فأن ويتمان خلق في قصيدته متحدثا قادما "من خيمتي يخرج منها الى الابد—ليرخي و يفكك حبال الخيمة"، وهي صورة للجندي الاخير الذي وهو ينزع اخر معداته و اجهزة الحرب من اجل ان يبدأ حياته فيما بعد الحرب. التركيب النحوي غير المكتمل يعكس ضبابية مستقبل الامة في تلك اللحظة ويظهر في البيت الافتتاحي: "من اجل التربة المشبعة التي مشوا عليها، مناديا، اغني للاخير" (في طبعة لاحقة يزيح ويتمان الفوارز بين العبارات و يعطي بيتا فوضوي من الناحية النحوية). ليس من الواضح من هو الفاعل في "مناديا" او من المقصود بضمير الجماعة في "مشوا" او ضمير المتكلم في "اغني" ؟ من الصعب توضيح هذا الغموض و من هو "الاخير" الذي يغني له؟ هل هذه المرة الاخيرة التي سيغني فيها ام سيغني لأخر الموتى؟
ايا كان المعنى الذي نستخلصه من البيت الافتتاحي، فأن هناك شيء واحد واضح هنا. سواء كنا سوف نعتبر ضمير الجماعة يعود للجنود الذين ماتوا في الحرب و الذين اشبعوا التربة بأجسادهم الميتة، او كنا سنعتبر الضمير يعود على الجنود الاحياء الذين يمشون على التربة التي يعرفون انها اشبعت بجثث الرفاق و الاعداء، فالان هذه التربة مشبعة "الارض الاعتيادية، الارض بلا كلمات، شاهد الحرب و السلام". الاشباع يكون عامل التخمير في العجينة التي تجعلها ترتفع، او بشكل عام يعتبر يكون عاملا يدخل في شيء ما من اجل البدء بالتغيير او التحول. الكلمة لها اصول لاتينية بمعنى "ترفع او تعلو". كلمة الاشباع يكتسب معنى رمزيا للتأثير القوي غير المرئي. و كما قد رأينا في كتابات والت ويتمان عن الحرب الاهلية، فأن العامل غير المرئي الذي يعمل خلال التربة في الارض التي مزقها الحرب هو الموت بحد ذاته، و الذي يتشكل على الدوام من خلال قوى غير مرئية و سحرية ليكون حياة جديدة، و يصبح الغذاء الذي يبقينا على قيد الحياة و هو ايضا الهواء الذي نتنفسه. "المليون ميت" هم الذين اشبعوا الامة الجديدة، الحياة الجديدة: فترة ما بعد الحرب يجب ان يعيش حالة الظهور من الموتى.
في اللغة الانكليزية كلمة الاشباع هي leaven’d و نرى فيها احد كلمات ويتمان المفضلة و هي leaves. فالطبيعة تضع اوراق جديدة لكنها تفعل ذلك من خلال اشباع جثث الموتى للأرض. وهكذا تصبح كلمة ويتمان المفضلة عن التجديد وهي leave تصبح ايضا كلمة للتوقف و النهاية. مأسي الحرب الاهلية توفر الاختبار الحقيقي لإشباع جثث الموتى: هل يمكن تحويلهم الى اوراق جديدة (صفحات جديدة من التاريخ للديمقراطية الجديدة) او سيكنون نهاية التجربة الديمقراطية التي بالكاد ابتدأت؟ لذلك يغني المتحدث و ينادي—من اجل اكتشاف لو ان هناك مستقبل.
القصيدة هي نداء و استجابة في الوقت نفسه. فهي تبدء بالناجين ينادون الارض المشبعة من الشمال و الجنوب الى الغرب، من الغابات الى الانهار الى الجبال و البحار. و يذهب النداء ليشمل جبال الالغيني و نهر المسيسبي ، تلك الجبال و النهر اللذان يجمعان الشمال و الجنوب وهي الاشكال الطبيعية التي رفضت الانكسار عندما انفصل الجنوب عن الشمال لكن بدلا من ذلك اصبحت تذكيرا من الطبيعة عن الاتحاد. و يصل النداء الى الامة التي تعيش الحداد ، تلك الامة الهشة و التي تحتاج الى الشفاء ويمر عبر كل الارض المجروحة. و في اخر خمسة ابيات فأن تستجيب الارض لنداء الجنود "لكن ليس بالكلمات". بدلا من ذلك، "الارض المعتادة"—الارض الديمقراطية التي تعمل الان من اجل الغاء الفروقات و الاختلافات—تستجيب من خلال احتضان و تغذية الابناء من الشمال و الجنوب مثل اب يحتضن ابنه ليكبر. فالميادين الغاضبة التي كانت هي ارض معركة، اصبحت مصدر للانبعاث مرة اخرى، فهي لم تعد تبعث التدمير و الموت لكن ايضا اصبحت افاقا لا تنتهي—وهذا ما سماه ويتمان بعد سنوات الافاق الديمقراطية، الحدود الضبابية التي شوف تضعها الامة الديمقراطية تحت الاختبار و تقوم بعبورها و اختراقها مرة تلو الاخرى (فهي قد بنيت في التركيب الرباعي الامريكي).
و هكذا ينهي ويتمان ديوانه بالكلمة اللاتينية "نهاية" و التي تظهر في مكان مفتوح في نهاية القصيدة. في اللغة الانكليزية هذه الكلمة اللاتينية سوف تعني نهاية بدون نهاية. و هي كلمة قديمة للحدود و الاشياء التي تقسم. فهي تجلس هناك في نهاية كتاب ويتمان مع علامة التنقيط التي تدل على النهاية (النقطة) و مع خطين لتحديد ما هو اعلى و اسفل. فالعديد قد انتهى فالحرب قد انتهت و كتاب ويتمان عن الحرب ايضا انتهى، لكن الامة لم تنتهي. الحدود اعلى و ادنى كلمة النهاية صغيرة (كما لو كانت تتقلص) من السهل عبورها و احاطتها بالمكان—مكانا اضافيا لكلمات يمكن ان تكتب و كلمات لا تنتهي.
—EF
الى الارض المشبعة التي رحلوا مشوا عليها
الى الارض المشبعة التي مشوا عليها—مناديا—اغني، للاخير؛ (لا المدن، ولا الانسان لوحده، ولا الاموات لكن من خيمتي يظهر الى الابد—مرخيا مفككا حبال الخيمة) في عذوبة نسيم العصر و في الدوائر الافقية الممتدة، و عائدين الى السلام، الى الحقول الغاضبة الباعثة للحياة و الافاق التي لا تنتهي—الى الجنوب و الشمال؛ الى الارض المشبعة في العالم الغربي عموما، لاختبار صحة قصائدي، (الى الارض، الارض بلا كلمات و التي شهدت الحرب و السلام) ال تلال الالغيني و نهر المسيسبي الذي لا يتعب، الى الصخور، مناديا، اغني و الى الاشجار و الغابات، الى سهول القصائد و الابطال، الى الجداول التي تنتشر، الى البحار البعيدة و الرياح التي لا ترى و الهواء النقي؛ ....ومن خلال الاستجابة يردون على الجميع (لكن ليس بالكلمات) الارض المعتادة، التي شهدت الحرب و السلام ، تعترف بصمت الجدول يأخذني قريبا، كما الوالد يرعى الابن؛ الجليد و المطر الشماليان، اللذان يبدئانني و يطعماني الى النهاية؛ لكن شمس الجنوب الحارة تنضج اغاني. انتهى
خاتمة
كتب ويتمان في اوراق العشب طبعة 1872 يقول "ايها الشعراء القادمون! ايها الخطباء و المغنين و الموسيقيين القادمين!" مستدعيا المستقبل لتبرير شعره الذي اصبح بعد اندلاع الحرب الاهلية اكثر حزنا. فالأغنية كانت صورة شعرية مهمة في عمله ينصح كل من تبعه لان يبحثوا عن ويتمان داخلها. فتلك الشخصيات المجهولة من المستقبل سوف توازن كل الموتى المجهولين الذين تحللت اجسادهم في الارض؛ ومن هنا اصبح من الملائم ان ينتهي "قرع الطبول" بأغنية عن خلق امريكا الجديدة. "الى التربة المشبعة التي مشوا عليها" و التي تدعو الى ان يكونوا شعبا و كينونة سياسية ملائمة لهذه الارض. وهذه ليست بالمهمة البسيطة.
بالرغم من كونها نهاية حزينة "لأغنية نفسي" الا ان هذه القصيدة تعتبر ختامية في ستة عشر بيت، وهي اغنية ترافق الجنود في رحلتهم عائدين للبيت، وتمنح البركة الى الذين سقطوا مدفونين في الارض و الارض بدون كلمات و التي شهدت الحرب و السلام، و هي استدعاء للسلام و المصالحة و خريطة للأفاق البعيدة التي ترسم الحدود في هذه البلاد التي تتوسع نحو الغرب و التي نضجت جميعها في حرارة الشمس في الجنوب" في ثمار الصراع المريرة التي سوف تعرف في النهاية شخصية مواطنيها. وكما حصل في اسطورة اورفيوس فهو يغني للصخور و الاشجار مستدعيا الرياح غير المرئية و الهواء" من اجل استحداث الخلق؛ فمثل اورفيوس فهو يذهب الى رفاقه، ايرودايس، عائدا من العالم السفلي الذي سلمتهم اليه الحرب. و نعرف كيف انتهى الامر بايروديس.
ما حققه ويتمان كان اقرب الى المثل الاعلى الذي غنى له الشاعر راينر ماريا رالك في بداية قصيدته سونيتة لاروفيوس و هي سلسلة من خمسة و خمسين قصيدة كتبت في ثلاثة اسابيع في ما بعد الحرب العالمية الاولى و سماها "عاصفة ابداعية متوحشة":
شجرة ارتفعت هناك. ايها التسامي النقي!
اورفيوس يغني! ايتها الشجرة المرتفعة عاليا في الهواء
بداية جديدة، تومأ و يظهر التغيير.
تتجمع الحيوانات في قصيدة رايلك للاستماع الى موسيقى الشاعر و النبي اليوناني، "الذي بنى معبدا داخل اذانهم". ويتمان ايضا بنى مثل هذا المعبد عند قراءه مستفيدا من المعرفة التي اكتسبها خلال رحلته الى العالم السفلي في مستشفيات الحرب الاهلية حيث توفي العديد من رفاقه. غنائه سوف يرتفع مثل الخبز من التربة المشبعة في العالم الغربي من اجل تغذية من يحتاج و الذين سيثبتون صحته.
—CM
سؤال
ربما اهم بيت في القصيدة هو الذي جاء بين الاقواس، و غالبا ما كانت هذه طريقة ويتمان في التعبير عن اللحظات الحرجة في حياته--"الى الارض، الارض بلا كلمات و التي شهدت الحرب و السلام"—و بعد ستة ابيات يتكرر البيت مع بعض التغيير: "الارض المعتادة، التي شهدت الحرب و السلام، تعترف بصمت". باي طريقة تفسر كلمة "المعتادة"؟ و كيف يترجم ويتمان صمتها بشكل من اشكال الاعتراف الصامت—الشعري؟
اجب عن السؤال في مربع التعليق ادناه او على صفحة ويتمان في الفيسبوك.