توطئة
في البداية لا تبدو ان هذه القصيدة القصيرة تنتمي لمجموعة قرع الطبول. فالقصيدة لا تذكر الحرب الاهلية، لكن من الواضح ان ضغط اوقات الحرب قد انعكس في رغبة الشاعر للهروب من مكان كل شيء فيه مقسم (في المحاضرة الكون ينقسم الى اعمدة و صفوف) و رغبته في ان يستعيد الاحساس بالكمال و الكلية. الاتحاد و الوحدوية يجمع الاشياء التي انفصلت—هذه هي الافكار و المفاهيم التي تتحدث عنها العديد من قصائد "قرع الطبول" و هي ايضا محور هذه القصيدة القصيرة.
النصف الاول من القصيدة يتكون من ابيات استرجاعية تكرر فيها الكلمة الافتتاحية "عندما" لتبني التوتر الذي يتزايد عند الشاعر الى حد الارهاق و يتبعها النصف الاخر من القصيدة حيث يعبر الشاعر عن خلاصه عندما يخرج من المحاضرة ليستنشق الهواء الليلي الرطب. جزئي القصيدة يتناقضان في الايحاء الصوتي ايضا: الابيات الاولى (التي تستذكر محاضرة الفلكي) تتكون من مقاطع متسارعة بينما النصف الثاني من القصيدة تتباطئ فيه الكلمات حتى تنتهي مع هدوء النجوم .
و عندما يخرج الشاعر من قاعة المحاضرة—وكل ما تستعرضه من تعليم—ليتسكع في الليل، يتكرر هنا نمطا معروفا في شعر ويتمان الذي ترك في "اغنية نفسي" تعليم المدراس و الكنائس و ترك البيوت و الغرف ليستمتع بجمال الغابات. فالفلكي الواسع المعرفة استعرض الكون على انه ارقام و حسابات—سلسلة من البراهين و الارقام و المخططات—و تلقى التشجيع و التصفيق على ذلك لأنه حطم الكون الى مخططات و نقله الى قاعة محاضرة حيث لا يرى الجمهور اي ابداع سوى ما يقدمه الفلكي و ليس ابداع النجوم. فعلى الفرد ان يكون خارجا ليرى النجوم الفعلية التي تقدم براهين ابداعها "بصمت رائع". شاعر القصيدة دون سبب يشعر بالإرهاق في المحاضرة و تختلج الشاعر الرغبة ان يرى الكون دون العمليات الحسابية و نظريات العلماء.
ومع ذلك عندما ينظر الشاعر الى السماء، فهو لا ينسى الدروس التي قد تعلمها في قاعة الدرس. فهو يقول لنا كيف انه ينظر "من وقت الى اخر" الى السماء و ما يبدو في البداية على انها مجرد جملة عابرة تظهر على انها تشير الى المفاهيم الجديدة التي وضحها الفلكي في محاضرته: فالضوء يستغرق وقتا للانتقال و عندما ننظر الى السماء نحن لا نرى عبر مسافات مكانية هائلة لكن ايضا ننظر الى رحلة زمانية طويلة. عندما ننظر الى السماء في الليل فأننا نرى من وقت الى اخر الضوء من ماضي بعيد. تابع ويتمان عمل الفلكيين و اصبح يعرف معنى السنوات الضوئية من خلال عمل الفلكي في سينسيناتي اورمبسي ماكنيات ميتشل (1810-1862) الذي اعطى سلسلة من المحاضرات في نيويورك في اواخر اربعينات القرن التاسع عشر (فالعديد من الصور الشعرية للكون في شعر ويتمان مأخوذة من كتابات ميتشل) و الذي اصبح لاحقا جنرالا في الجيش الاتحادي، حيث كان يعرف باسم "النجوم القديمة".
وكما يحصل عادة مع ويتمان، فأن الدروس العلمية التي يتعلمها لا يرفضها بل يضمنها في شعره و يوظفها بطريقة مذهلة ليقدم حقيقة شعرية. "ما اجمل العلم الايجابي!" كما يقول في "اغنية نفسي" : "حقائقكم مفيدة، ومع ذلك فهي ليست مسكني/ لكني من خلالها ادخلها الى مسكني". في قصيدة الفلكي، يعزز العلم ما يشعر به الشاعر وهو ينظر الى السماء الليل. اكتشاف الفلكيين لسرعة الضوء و المسافات الضخمة في الكون تعطي ويتمان الفكرة ان قصائده يمكن ان تكون مثل ضوء النجوم تنتقل من وقت الى اخر قادرة لان تصل الى القراء في 2016 و الذين لم يكونوا موجودين حتى عندما كتبت هذه القصائد من قبل شاعر لم يعد موجودا، كما ننظر الى النجوم في السماء و هي غير موجودة فعلا لكنها تظهر كذلك لان ضوئها البعيد لا يزال ينتقل الى انظارنا. النجوم و الكواكب تشكل جزءا من الاحساس بالأبدية في شعر ويتمان اثناء الحرب الاهلية—نقطة ماء خالدة (في عمق الزمان و المكان) ضد كوارث الحرب في بلد واحد في كوكب صغير تصبح اضطرابات تندثر بعدها و تختفي في دورة الزمان في الكون الواسع.
—EF
عندما استمعت للفلكي المتعلم
عندما استمعت للفلكي المتعلم و عندما اصطفت امامي البراهين و الارقام، و عندما ترتبت امامي في اعمدة مرصوفة، و عندما رأيت المخططات و الخرائط، للجمع و القسمة و حساباتها، عندما كنت جالسا استمع للفلكي الذي اعطى محاضرته وسط الكثر من التصفيق دون سبب شعرت بالتعب فنهضت و انسحبت خارجا لأتمشى وحيدا، استنشق هواءا ليليا رطبا، ومن وقت الى اخر ارفع رأسي لأنظر الى الصمت النجوم المذهل.
خاتمة
اي جمال مريع هذا—اول ما خطر علي بالي عندما رأيت اثار حصار سراييفو. بعدها تناسيت الرعب الذي حل بي فالأضواء التي نراها في الليل تجلب فقط الموت و الدمار في المدينة التي تحاصرها القوات الصربية. الرجل المثقف الذي يجد نفسه في منطقة حربية لا يتوقف عن التفكير بمحيطه بطريقة رمزية—ففي النهاية احد وظائف الصواريخ النارية التي يستخدمها المسلحون من كلا الجانبين هي في تحسين اصابة الهدف—و بالرغم من اني لا زلت عرضة الى ان اضل اتأمل النجوم في الليالي الصافية. الطلقات اخذت تتطاير بأقل من سرعة الشهاب الذي رأيته فوق ماونت ايغمان (وهو طريق الهروب الوحيد من المدينة) و التي سرعتها لا تعتبر شيئا اذا ما قارناها بسرعة دوران النجوم التي لا تبدو انها تتحرك. هذا ما خطر ببالي في سراييفو عندما ادركت اني احفظ عن ظهر قلب قصيدة ويتمان القصيرة "عندما استمعت الى الفلكي". اصبحت القصيدة بالنسبة الي مهمة جدا فهي تلخص وجهة نظري عن مكاننا في المخطط الكوني ، عندما ارى ان النجوم تنير بالصواريخ الضوئية الرعب الذي شعرت به سابقا ينتهي.
بعد عشرون عام من توقيع اتفاقيات السلام في دايتون اصبح للقصيدة معاني اخرى عندي. فقدرة ويتمان في تلخيص الكون كله في جملة واحدة و استيعاب و الادلة العلمية و المخططات و حتى الكشف عن الفجوة بين النظرية و الواقع تذكرنا بأن الشاعر يستطيع ان يجعل الفكرة تنتقل بسرعة الضوء. اقرأ هذه الابيات و سيبدأ العالم بترديدها بمعناي مختلفة.
وهنا يظهر لنا هذا السؤال: لماذا يخرج الشاعر ليستنشق الهواء الليلي الرطب اذا كان فعلا متعبا؟ يبدو انه كان يستعد الى اجتياز السموات و يختصره بنجمة من بين ملايين النجوم. الإيقاع الذي يسيطر على "اغنية نفسي" الابيات التي تذهب و تأتي و التي تتناسق مع حركته خارج الكون و الى اعماق النفس الانسانية، هذا الايقاع يجد صداه في التنقلات المتناقضة لقصيدة "عندما استمعت للفلكي" فالأبيات تتسارع في النصف الاول من القصيدة حتى يتزايد التصفيق في قاعة المحاضرة و بعدها يتناقض هذا مع النصف الثاني ليكون في نظر الشاعر الى صمت النجوم. الى اي مدى سوف يرحل عن الحشود الباقية في الارض ليدور بين الجنود المصابين و الذين سوف يعلمونه عن المعنى الحقيقي للتقسيم و الانفصال و هذا بداية تكون رؤيته التي ستضم الحرب و السلام معا.
كان طريق الغابة غير المعبد في ماونت ايغمان في موقع مسابقة القفز الجليدي في 1984 في الالعاب الاولمبية الشتوية، هو طريق التجهيزات البرية الوحيد الى سيراييفو خلال الحصار. و هو يمتد على طريق جليدي و في شتاء 1995 قامت مركبة الافراد لحمل الافراد بالتوقف جانبا لتفسح الطريق لشاحنة تنقل فرنسيين من قوات المحافظة على السلام الى المطار—وهو خط القتال بين القوات البوسنية و الصربية. كنت انا الشخص الموجود في المركبة المدرعة في طريقي الى مدينة سيبليت في كرواتيا و عندما حدق جندي شاب بي دون وعي مني رجفت خوفا. بعدها بوقت قصير ادركت عندما وصلنا الى الساحل بأن الشاحنة انزلقت عن الطريق و سقطت عن التلة وتسعة اشخاص من قوات المحافظة على السلام توفوا في الحادثة—وكانت اسوأ حادثة في الحرب. في تلك الليلة حدقت في النجوم فوق البحر الادرياتيكي دون ان استطيع ان افهم شيئا حولي.
—CM
سؤال
في اشعاره ويتمان ضمن العلوم المعرفية الجديدة في الجيولوجية و التطور و الفلك و التي انتشرت في وقته وقام بتحويل حقائقها الى قصائد. لكنه يبقى استثناءا للمعتقد السائد بان الشعر و العلم لا يلتقيان. (بعض الشعراء المعاصرين الذي يجدون مواضيعا لقصائدهم في الاكتشافات الحديثة هم اي ار امونز و ميوسلاف هولوب و جيمس ميرل و باتيان روجر و اليسون هوثورن دمينغ و ليندا بيردز و ريتشارد كيندي). كيف يمكنكم تخيل العلاقة بين هذه المجالات المختلفة؟ ما هي التزامات الشاعر تجاه المنهاج العلمية؟
اجب عن السؤال في مربع التعليق ادناه او على صفحة ويتمان في الفيسبوك.