توطئة
هذه قصيدة اخرى تشكلت من كتاب ويتمان عن الحرب الاهلية حيث سجل محادثاته مع الجنود عن خبراتهم في الحرب. هذه المرة الجندي كان من ماين اسمه ميلتون روبرتس و الذي من سريره في المستشفى الذي رقد عليه بعد بتر ساقه، قام بإخبار ويتمان عن مشهد عايشه في الغابات على شبه الجزيرة: "بعد معركة كنيسة وايت اوكس في انسحاب ليلا—الوقت بين 12-2 تلك الليلة في الكنيسة في الغابات، و التي اصبحت كنيسة في الليل و ادخل المرضى فيها—قبلها كان هناك الانسحاب الصمت في الغابات و نحن نتعثر فوق جثث الموتى الملقاة في الطريق..." كتب ويتمان كل التفاصيل التي رواها روبرتس حول ما راه عندما وصلت وحدته الى بداية الغابات: "في بداية الغابة كان هناك كنيسة قديمة حجمها جيد تستخدم حينها كمستشفى للمصابين في المعارك التي تحصل نهارا—كانت مليئة بالحالات المرعبة—ضوء الشموع بالكاد يضيء الظلام و المصابيح و الشعلات تتنقل حول المكان لكن يبقى الظلام مهيمنا—حشود المصابين تملأهم الدماء و الجراحين يعالجونهم—الفناء في الخارج مليء بهم—مستلقين على الارض على بطانيات و البعض على الارض الجرداء". و شرح روبرتس للشاعر كيف انه في هذا الظلام امكنه رؤية الجراحين و هم يعالجون بالكلوروفورم و يمكنه رؤية لمعان الآلات الحديدة و هي تضيء على ضوء المصابيح الذي يسقط عليها". نقل ويتمان الكثير من التفاصيل في وصف روبرتس في قصيدته "انسحاب في الرتب العسكرية" حيث يتبنى صوت روبرتس و يتخيله يصل الى "مكان مفتوح في الغابات" ليجد "كنيسة كبيرة و قديمة...و التي هي الان مستشفى مهمة" "بالكاد مضاءة" داخلها بين "ظلال السواد العميق يضيئه الشموع و المصابيح" هناك "منظرا لم تصفه اللوحات و القصائد" حيث "الجراحين يعملون...رائحة الايثر و عطر الدماء".
يتخيل ويتمان و يعيد خلق منظرا مرعبا، لا يمكن للأبداع الفني تصويره: مع ذلك قصيدة ويتمان تحاول ان تصوره بالرغم من انه بالكاد يستطيع رؤية الاشكال بسبب الضوء الخافت الذي يتمايل بين الظلال المظلمة وهو نفس الضوء الذي يحميه من رؤية المشهد المرعب الحاصل في المكان. كان ويتمان يحمل كتاب دانتي انفرنو معه خلال زياراته للمستشفى و كان يكتب ملاحظاته عن دانتي مباشرة بعد ما يكتبه من وصف المصابين الذي يزورهم: كما لو كان يعرف و هو يتنقل بين اسرة المصابين في واشنطن بأنه كان يعيش الجحيم الذي يصفه دانتي في كتابه و يعايش الرعب الذي ما كان يتخيله قبل عام. و مثل قصيدة "البقاء مستيقظا"، فأن هذه القصيدة هي جملة طويلة واحدة، في الاصل كل بيت كان ينتهي بفارزة منقوطة (ولاحقا اصبحت فارزة اعتيادية) لتعطي نفس الاحساس بتسارع الابيات كما هو التسارع في الانسحاب العسكري الذي تصفه الكلمات. لكن الانسحاب يتوقف للحظة في هذه الكنيسة التي تحولت الى المستشفى و جملتين اعتراضيتين في الانسحاب الطويل لجملة القصيدة تجعلنا نتوقف ونحن نقرأ.
في الوقت الذي نصل فيه الى الجملتين الاعتراضيتين، ندرك حينها ان ويتمان قد اضاف تفصيلا مهما الى رواية ميلتون روبرتس: فقد تخيل جندي شاب مصاب بشكل بليغ ("مجرد صبي) يجذب انتباه الراوي في القصيدة و يجعله يتوقف في الظلام المرعب. يتخذ هذا الصبي شكلا واضحا بين الاشكال الغامضة—يظهر الجندي مميزا—و يبقى هناك لثلاثة ابيات قصيرة قبل ان يعود الراوي الى الغموض المحيط به و بعدها يذهب الى الخارج للانضمام الى الصفوف التي تقوم بالتحرك. الجملتان الاعتراضيتان في هذه الابيات الثلاثة تعمل كمحطة توقف في عملية الانسحاب. الاولى تقييما سريريا و غير شاعري لإصابة الجندي : "(اصيب في بطنه)". الاصابات في الاحشاء التي حصلت خلال الحرب الاهلية عادة ما تكون مميتة نتج عنها الكثير من النزف و ينتشر فيها الاتهاب بسرعة: فيعرف الراوي ان الجندي في خطر من ان ينزف حتى الموت. و بعدها يأتي البيت المهم: "حقنت الدماء مؤقتا، (وجه الشاب ابيضا كأزهار الزنبق)". ننتقل من الوصف السريري لأول جملة اعتراضية في القصيدة الى لحظة شعرية مدفونة في جملة الاعتراضية الثانية—الجملة المجازية الوحيدة بين كل الرعب الذي يعيشه الراوي. لكن ندرك حينها ان هذه اللحظة الشعرية في الحقيقة تنتج من الوصف السريري: فوجه الصبي يمكن وصفه ابيضا كالزنبق فقط لانه قد اصيب في احشائه و هو ينزف لدرجة ان الدماء جفت في وجهه في لحظة موته. اقصى ما يمكن للراوي عمله هو ان يوقف النزيف مؤقتا—كلمة من الصعب لفظها (باللغة الانكليزية طبعا) و تأخذ وقتا مكونه من خمسة مقاطع توقف انسياب القصيدة و تكسب وقتا مهما من حياة الصبي. هناك عدة مسيرات تحصل في القصيدة: هناك مسيرة الجنود (والتي تتوقف للحظة عندما يتوقفون في الكنيسة /المستشفى) و مسيرة او انسياب الجملة الطويلة و التي تمتد عبر كل ابيات القصيدة (تتوقف للحظة بسبب الجمل الاعتراضية) و انسياب دماء الجندي من جسده (احتقنها الراوي لكن مؤقتا).
مثل زهرة اقتطفت، كان هذا الصبي ميتا اصلا و تحققت صورته كزهرة الزنبق لان حياته قد انسحبت منه. و عندما يذهب الراوي خارج الكنيسة يستطيع ان يسمع مسيرة الجنود الصاخبة و الرجال الذين لا يزالون على قيد الحياة يصارعون من اجل التقدم "في الظلام يتقدمون في الطريق المجهول" بينما الرجال الذين يسقطون يبقون خلفهم في الكنيسة/المستشفى او يتم التخلي عنهم في الطريق. و عندما يسمع الراوي اوامر الاستعداد للمسيرة يفكر مرة اخرى بالصبي الذي اوقف الدماء السائلة من جسده مؤقتا و يتذكر لحظة الموت الاخيرة: "عينيه مفتوحتين و يعطني نصف ابتسامة". هذه اللحظة الحنونة يعبر عنها الشاعر بتركيبة نحوية مخالفة لقواعد اللغة الانكليزية حيث يكتب الشاعر الفاعل و المفعول به متجاوران لبعضهما دون ان يفصلهما الفعل كما هو معتاد في القواعد الانكليزية. و الراوي الذي يزحف مرة اخرى الى الظلام يحمل معه هدية من الجندي الميت تلك الابتسامة المترددة التي تظهر على وجه الابيض كالزنبق والتي تعطيه تلك اللحظة التي وحدتهما سوية كفاعل و مفعول به. بطريقة ما اعاد هذا الصبي الحياة الى الجندي في مسيرته و في المكان الذي يغمره الموت اعطى هذا الصبي لحظة جميلة للجندي. الزنابق البيضاء في الكنيسة هي ازهار العودة للحياة و الحياة الجديدة لا تأتي الا بعد الموت
—EF
زحف الصفوف الصاخب و الطريق المجهول
زحفا للصفوف قاسيا و الطريق مجهول، طريقا خلال الغابات الكثيفة و خطوات متعثر ة في الظلام؛ عانى جيشنا من خسارات ثقيلة و ما تبقى على قيد الحياة يتراجعون؛ حتى جاء منتصف الليل فومض امامنا ضوء خافت من بناية مظلمة؛ وصلنا المكان مفتوح في الغابة و توقفنا عند البناية الخافت ضوئها؛ كنيسة قديمة في مفارق الطرق—لكنها الان مستشفى مهمة؛ --دخلت اليها للحظة، فرأيت ما لا تصفه الصور ولا القصائد: خيالات مظلمة تضيئها المصابيح المتنقلة، و شعلة واحدة بلهيب احمر و غيوم من دخان؛ تساعدني على رؤية حشود ومجاميع من الاشكال على الارض بعضها ملقى في المقصورات؛ عند قدمي هناك جندي شاب، مجرد صبي، في خطر من ان ينزف حتى الموت (فقد اصيب في احشائه) اوقفت سيل الدماء مؤقتا (وجه الشاب ابيضا كزهرة الزنبق) و بعدها قبل الرحيل انظر حولي، احاول استيعاب ما أرى: وجوه واشكال لا يمكن وصفها، بعضهم غامض و الاخرين موتى؛ جراحين يعالجون الجرحى، و الممرضين يحملون الشموع و رائحة الايثر و عطر الدماء؛ حشد من الاشكال التي تملأها الدماء—و الفناء في الخارج يملأه المصابين؛ البعض على الارض العارية و البعض على بطانيات ممددين و اخرين يحتضرون؛ صرخة هنا او هناك، وصرخات الاطباء ، ولمعان الآلات الحادة و هي تعكس ضياء المصابيح؛ استذكرها مرة اخرى في قصائدي –ارى تلك الاشكال و اشم تلك الروائح؛ و اسمع الاوامر تعطى "تابعوا يا رجال تابعوا" لكن اولا انحني نحو الصبي الذي يحتضر—عيناه مفتوحتين—فيعطيني نصف ابتسامة و بعدها تنغلق عيناه، بهدوء و اسرع نحو الظلام، اكمل المسيرة، نسير في الظلام، في صفوفنا العسكرية، لا يزال الطريق المجهول امامنا.
خاتمة
احد الباحثين من منظمة مراقبة حقوق الانسان كان يأخذ شهادة احد ضحايا التعذيب في البانيا على يد القوات الصربة الشبه عسكرية فأدهشتني طريقته بطرح الاسئلة. بريستنا كوسوفو 1992. الحرب التي اندلعت في البوسنة و كرواتيا هجرت الملايين من الرجال و النساء و الاطفال و العديد منهم الان يعيش دون خط الفقر في مخيمات اللاجئين في جمهوريات يوغسلافيا السابقة و اجمع خبراء السياسة الخارجية و الصحفيين بأنه لن يمر وقتا طويلا قبل ان يندلع القتال في كوسوفو. تحدثت للصحفيين القادمين من المخيمات و ايضا محققين من المفوضية العليا للاجئين و محكمة جرائم الحرب في الهاغو و موظفي المنظمات الانسانية جميعهم كانوا يواجهون صعوبة في تسجيل القصص التي تتحدث عن المعاناة و التعذيب. بطريقتهم الخاصة اتبعوا منهج ويتمان في اخذ الملاحظات و التي كانت نواة كتابه مذكرات خلال الحرب و ديوان قرع الطبول. لكن ويتمان فقط قادر على ان يأتي بشيء مثل "زحف الصفوف الصاخب" ذلك المونولج لمن يسير خلال الجحيم.
تبنى ويتمان هنا شخصية خيالية لجندي يسير خلال الغابات، و هو قناع دانتي يسمح له بتخيل المشهد الذي يريد، ومن ملاحظاته و التي يدمج فيها صفوف الجيش المنسحب الذي يقترب من بناية بالكاد يضيئها نور خافت في مكان مفتوح في الغابة. هنا تكمن صورة لا يمكن للصور او القصائد ان يتخيلوها فالحرب يخلق واقعا اخر يتطلب اشكال كتابة جديدة ليستوعب كل الخبرات الجديدة. ينظر حوله ويرى تجمع في كنيسة للموتى و ارواح الموتى، بعضهم يستلقي في المقصورات بدلا من الانحناء للعبادة، تم التضحية بهم من اجل الاتحاد و يقوم مؤقتا بحقن الدماء في جندي ينزف من جرح في الاحشاء حيث اضحى و جهه "ابيض كالزنبق". خلال الوقت القصير الذي قضاه في المكان لم يستطع لا انقاذ الجندي و لا حتى يستوعب كل المشهد الحاصل امامه—اشكال لايمكن وصفها، جراحين يصرخون باوامرهم و الاتهم الحادة تعكس ضوء المصابيح. رعايته للجندي هي نقطة ضوء في الظلام، و تستذكر ما قاله الشاعر الامريكي روبرت فروست "كل قصيدة هي نقطة سكينة ضد الاضطراب الحاصل في العالم".
لا يمكن ان نفوت المسحة الدينية في القصيدة. فاستعارة زهرة الزنبق تستذكر مقاطعا من العهد القديم و الجديد: "حبيبي هو انا، وهو انا" كما تقول اغنية الملك سليمان: "فهو يتغذى بين الزنابق". و انجيل ماثيو يقول عيسى لحواريه : "انظروا زنابق الحقل كيف نمت، فهي لا تتعب و لا تدور. ومع هذا اقول لكم بان سليمان بكل عظمته لم يكن مثلها". ما يقوله الجندي للشاب في اخر لحظاته اشبه ببركة القسيس لابرشيته باسم الرب—الحب الذي جميعنا نشعر به في لحظة ما من حياتنا، عندما نعطيه و نتلقاه: بركة يتلقاها الحي و الميت. فهي ما يميز العاملين في المنظمات الانسانية الذين يعتنون باللاجئين في العراق و سوريا و اليمن و الصومال و بورنودي و الكونغو؛ قصص الصحفيين التي تحمل شهادة المأسي في عصرنا و صلاوات كل من يجدد نفسه "يسير الى المجهول".
—CM
سؤال
هناك العديد من البنايات تغيرت وظائفها—خلال فترات الحرب و الازمات الاخرى و غالبا ما يحصل هذه عندما يبيع صاحب البناية لتبح شيئا اخر. الكنائس تصبح مستشفيات و المخزن تصبح استديوهات فنية و المطاحن القديمة تصبح مقرات سكنية و بنايات الصحف تصبح مطاعم. عندما يحصل هذا يبقى الغرض القديم للبناية حاضرا مع الشكل الجديد و يخلق بعض الاضطراب (كما رأينا في قصيدة ويتمان حيث وظائف الكنيسة اختلطت مع ما عايشه ويتمان في المستشفى). هل هناك بناية قمت بزيارتها و رأيت انها تحمل وظيفتين متناقضتين؟ هل عايشت فيها التناقض بين ما كانت عليه و ما هي عليه الان؟
اجب عن السؤال في مربع التعليق ادناه او على صفحة ويتمان في الفيسبوك.