توطئة
في هذه المرحلة من الحرب، قبل عام من انتهائها وصل ويتمان الى نقطة انهيار. في هذه الرسالة الى والدته لويزا فان فيلسور ويتمان، عبر الشاعر عن مشاعره بصراحة. ذلك الالم و العذاب الذي غالبا ما يعبر عنه الشاعر في الجمل الاعتراضية في كتاباته عن الحرب الاهلية، الا انه جعل الالم يتدفق دون عائق في هذه الرسالة "لم استطع ان امنع الدموع من ان تنهمر...امي يكفي ان نجمل قلوبنا هذه الالم.... فمعظم الوقت اشعر بالألم—فالأمور تزداد سوءا فيما يخص عدد و معاناة المرضى... امي العزيزة سوف اكتب امورا مبهجة اكثر في المرة القادم—لكني اكتب هكذا لأني ارى الكثير هنا". كانت رسالة ويتمان لوالدته خلال الحرب تعتبر من اكثر الوثائق المليئة بالعواطف التي كتبها ويتمان، و بسبب قربه من والدته استطاع ويتمان ان يعبر عن نفسه دون حرج.
و نشعر انه في هذه الرسالة بالمسؤولية التي شعر بها ويتمان—مسؤولية تجاه عائلته الجديدة في واشنطن العاصمة مكونة من جنود الحرب الاهلية الذين كانوا مصابين و يحتضرون في المستشفيات التي قام بزيارتها يوميا في الليل و النهار و مسؤوليته تجاه عائلته في بروكلين التي كانت تعاني هي الاخرى من الانهيار. قبل اشهر قليلة من الرسالة توفي اخو يوتمان اندرو و الذي كان يخدم في الحرب و توفي بسبب التهاب الرئة في منزله في بروكلين تاركا ورائه طفلين وزجة حامل تدعى نانسي و التي سرعان ما اصبحت تعمل في البغاء. الاخ الاكبر لوالت و الذي يدعى جيس كان يعيش في قبو بيت عائلة والت ويتمان مع ام ويتمان لويزا و الاخر الاصغر لوالت و الذي يعاني من عجز عقلي و يدعى ايدي؛ جيس الذي سرعان ما تم وضعه في مصح كان قد اصبح اكثر عنفا و يهدد حياة الاطفال و زوجة اخ ويتمان جيف الذي كان يعيش في الطابق العلوي. الاخر لويتمان، جورج، و الذي كان لا يزال جنديا يشارك في بعض المعارك القاسية و سرعان ما اصبح بعدها اسيرا و ظل قلقا حول ويتمان ووالدته. اما بالنسبة لويتمان فصحة لويزا كانت تتدهور وتسبب الكثير القلق للشاعر ففي في اعلى رسالته عبر ويتمان عن قلقه حول صحة والدته. فكما هو حال الامة، كانت عائلة ويتمان تعاني من التمزق و الموت.
ومتع ذلك ظل ويتمان قلقا من ازدياد عدد الجرحى و القتلى في واشنطن. وحيث ان ويتمان كان يعاني كثيرا، كان عدد المصابين (الذين قدرهم في مرة من المرات بأنه زار 100000 مريض و مصاب خلال العامين الاخيرين للحرب) قد كان اكثر مما يحتمل و ظل يركز على المصابين من بعد ان كانوا العديد من دون اسماء اصبحوا حالات فردية عرفها شخصيا، حيث كتب لهم رسائلهم بالرغم من فترة المعرفة القصيرة بينهم. كان يكتب اسمائهم و بعض التفاصيل البسيطة عن حياتهم في دفتر ملاحظاته الذي كان يحمله معه. كان يقدم لهم الحب و قدم لهم هويتهم. لكن في هذه الرسالة السبب وراء انهياره كان عندما توفي جندي قبل ان يمكن معرفة هويته ومات دون اسم دون ان يكون هناك عائلة يكتب لها رسالة دون ان يحصل اي تعاطف من الشاعر الذي سرعان ما اصبح ابا و اخا و رفيقا و اما و ممرضا و كاتبا لهؤلاء. في تلك الليلة عندما سقط المطر و دخل ما يقارب 600 جندي لمستشفى العاصمة، اسرع ويتمان الى احد الصبيان المساكين، الذي كان نحيلا و صغيرا بالعمر و مات قبل ان يعرف عن نفسه او ان يكون هناك اي دليل عن هويته—كما قال عنه ويتمان—مات مجهولا.
نستذكر اول كتاباته "مليون قتيل باختصار" حيث يخبرنا ويتمان وهو يتحدث عن عدد المقابر الحربية حول اهمية كلمة "مجهول الهوية" و كيف انه في العديد من المقابر معظم الموتى "مجهولي الهوية". فكل جندي قتل في الحرب هو في الحقيقة مجهول الهوية لانه لم يعيش فترة طويلة ليبني هوية خاصة به. لكن بعض الجنود مثل ذلك الذي مات وفقده ويتمان في ليلة مارس كانوا مجهولي الهوية تماما حتى في الكارت الذي كان يمكن لويتمان ان يقدمه له. و الان ويتمان على وشك الاستسلام مثل الكثيرين حوله. فلقد اخذ يشعر باليأس من العاملين في المجال الطبي الذي اخذوا يصبحون لا يبالون بمعاناة الجنود و الذين جعلوا ويتمان يخشى مما ال اليه العالم. و مع ضياع جندي في عالم النسيان و الذي سبب صغر سنه دعاه ويتمان "طفلا مسكينا" اخذ ويتمان يتذكر اعتماده الطفولي على امه فيعبر عن مشاعره المكبوتة ويبكي دون حرج. و في اليوم التالي يبدأ من جديد و يبحث عن من يعتني بهم بين المصابين و يعدهم بأنه سوف سيتذكرهم و يجعلهم معروفين للأجيال القادمة؛ سوف يستوعب خوفهم و يأسهم كما قامت لويزا باستيعاب حزن ولدها و خوفه في تلك الليلة.
—EF
رسالة ويتمان الى لويزا فان فيلسور ويتمان في 29 اذار 1864
واشنطن
عصر الثلاثاء اذار (29)
والدتي العزيزة
كتبت لجورج مرة اخرى في نوكسفيل—تبدو الامور هادئة هناك الى الان—ونعتقد هنا بأن قواتنا سوف يتم تقويتها في فيرجينيا هذا الربيع و كل شيء مهيأ لأخذ الريشموند—غرانت موجود هنا فهو في مركز القيادة في الميدان في محطة براندي—نتوقع ان يحصل القتال قريبا فهناك العديد من الاشارات—اعتقد اني قد اخبرتك سابقا بأنهم ارسلوا جميع المرضى من ارض المعركة—قبل اربعة ليالي كانت الليلة ممطرة بشدة طوال المساء و الليل—و في خضم هذا المطر في الليل وصل قطار يحمل المرضى و المصابين، اكثر من 600 جندي—كان منظرا متكررا فلم استطع ان احبس دموعي—العديد من الشباب المساكين تم نقلهم على السرائر تغطيهم البطانيات و التي متشبعة بماء المطر—معظمهم كانوا حالات المرضية و الاخرين مصابين بشكل سيء—ذهبت الى اقرب مستشفى و قمت بالمساعدة—امي العزيزة كانت الليلة مريعة (ليلة الجمعة السابقة)—مظلمة جدا و الريح قوية و الامطار تسقط بكثافة—احد الصبيان المساكين (وهذه عينة واحدة من بين 600 حالة، بدا لي شابا هادئا جدا و نحيل (رأيت جسده فيا بعد)—تأوه من الالم عندما نقلوه الممرضين—وعندما حملوه خلال بوابة المستشفى ووضعوا السرير المحمول وفحصوه، كان الصبي قد مات—فأخذوه الى الردهة و جاء الطبيب مباشرة لكن لم يكن هناك فائدة—اسوأ ما بي الامر كان الجندي مجهول الهوية لا شيء هناك يعرف هويته—امي هذه الامور تعصر قلبي—من المحتمل ان اهله لن يعرفوا ما حل به—الولد المسكين بدا بعمر 18 عام—
اشعر في الفترة الاخيرة اني احتاج الى الراحة، صحتي جيد لكن مشاعري متألمة اغلب الوقت—فالأمور تزداد سوءا بسبب ازدياد المعاناة و عدد المصابين كما قلت سابقا و من يحاول الاعتناء بهم اصبحوا اكثر برودا ولا يبالون—والدتي عندما ارى الجنود وما قد عايشوه من معاناة وكيف ان الجميع يحاول استغلالهم و كيف ان بعض الجنود سرق منهم المال من جسده من قبل بعض الممرضين او من المرضى و حتى من اسفل رؤوسهم—و الالم الذي اراه يوميا، اراني اخشى العالم اليوم—امي سوف احاول ان اكون اكثر بهجة المرة القادمة—لكني هنا ارى الكثير—وداعا الان امي العزيزة—
والت
امي، وصلتني رسالتك تخبرني بأنك اصبحت افضل حالا—هل شفيت تماما؟--اتمنى ان تكتبي لي قريبا—فأنا قلق—ارسل محبتي لجيف و مات و للجميع
خاتمة
في العديد من العواصم العالمية هناك نصب تذكاري للجندي المجهول يشبه الموجود في مقبرة ارلينغتون الوطنية، ومثل هذه النصب وضعت للاحتفاء بذكرى اولئك سقطوا في الصراع حول العالم. رسالة ويتمان الى والدته في السنة الاخيرة للحرب و التي يعبر فيها عن يأسه و احباطه بسبب القتل المستمر و حاجته لأن يأخذ فترة راحة من رعاية المصابين، هذه الرسالة تعتبر رثاءا للجندي المجهول الذي لن يعرف والديه بما حصل له. رسالته هذه هي صرخة من القلب تعتبر ترنيمة لمن يبقى مجهولا في الحرب: كل الاحلام التي سقطت على ارض المعركة. وهذا ما لا يستطيع الشاعر تحمله. (وهذا يوضح لنا لماذا تدهورت صحته بعد ذلك). فمنظر وصول القطار في العاصفة المطرية وهو يحمل 600 من المرضى و المصابين ممددين و تغطيهم بطانيات مبللة جعلت الشاعر يبكي و تبقى نظرته على الولد المسكين الذي يجسد موته كل مأسي البلاد. فاخذ يخشى العالم اجمعه.
اخبرني احد الكتاب البوسنيين بأنه لم يعد يتتبع الاصابات التي عانى منها خلال حروب الانفصال في يوغسلافيا السابقة—بالرغم من انه يتذكر بوضوح اليوم الذي اخترقت فيه شظية لسانه الامر الذي سبب له اعاقة في كلامه. فقال كاتب زميله "بأنه قد خسر الحبكة الدرامية" وهي الحبكة التي اراد ان يضمنه في الرواية التي كان يكتبها في الجبهة. و الاكتشاف الحديث الذي يقول بأن ذاكرة الصدمة يمكن ان تمر من جيل ال اخر يقترح هذا الاكتشاف بأن خبراته في الحرب سوف لن تشكل اعماله الادبية فقط لكن ايضا تشكل حياة ذريته. قام العلماء بعمل دراسة لاطفال الناجين من الهولوكست لقياس التغيرات الجينية التي تتحكم بالاستجابات نحو الاجهاد، مؤكدة على نظرية ان العوامل البيئية ومن بينها الحرب يمكن ان تغير الصيغة الجينية لبعض الافراد. فالحرب تغير الجميع—الجنود و الناجين و الضحايا و عوائلهم و اطباء و ممرضين و دبلوماسيين و مراقبين—بالإضافة الى اولئك الذي يأتون بعد انتهاء الحرب. وهذا ما اراد ويتمان تسجيله بعد مشاهدة حمولة القطار ليكتب في روحه جورح الامة.
قال احد الرسامين "الجرح و الارض اليباب هما الشيء نفسه" لرسام اخر في رواية غرفة توبي للكاتب بات باركر و هي الجزء الثاني للثلاثية التي تدور احداثها في الحرب العالمية الاولى. كيف يمكن للكاتب ان يمثل الحقائق البشعة للحرب؟ ما قدمه باركر من اجابات لهذا السؤال يشير الى الحاجة الانسانية لإيجاد معنى للمأساة كما وضح اعتراف ويتمان لوالدته في لحظات يأسه. فمشاعر التعاطف مع المرضى و المصابين هو ليس بالشخص الذي يحاول الاستفادة منهم: وهذه احد الاسباب التي جعلت كتابات والت ويتمان عن الحرب مستمرة الى الان. فلقد نظر الى حفرة الجحيم ووعد والدته "بالكتابة بشكل مفرح المرة القادمة" ما الذي يفعله اكثر؟
—CM
سؤال
تسجل رسالة ويتمان الشعور بمطلق اليأس و الاحباط. مثل هذه اللحظات تعتبر خطره جدا لأي شخص لكنها تتحدى موهبة الكاتب بشكل شخصي. ففي مثل هذه اللحظات قد يقرر الكاتب ان يصمت او يقرر ان يكتب عن مشاعره ليخرج من الظلام. يختم ويتمان الرسالة بأخبار والدته بأنه سوف يحاول ان يكتب بطريقه اكثر بهجة في المرة القادمة—لكن الان تغلب عليه مشاعره. هذه العبارة الاخيرة مهمة: فما كان يغلب عليه الشعور بالإحباط و الخسارة والموت و العنف. فالكاتب عادة يريد ان يعيش مختلف المشاعر لكي يكتب عنها لكن ما عايشه ويتمان الان اكثر مما يحتمل. ماذا تجد في الرسالة يجعلك ترى ان ويتمان سوف يستمر في التحدث عن ما عرفه في الحرب و يجعله الاستمرار بالكتابة بدل الصمت؟
اجب عن السؤال في مربع التعليق ادناه او على صفحة ويتمان في الفيسبوك.