توطئة
في دفتر ملاحظته الذي يعود لعام 1863، سجل ويتمان ما عايشه في فرديركسبيرغ في فيرجينيا حيث ذهب الى هناك ليبحث عن اخيه المصاب جورج و استطاع ان يجمع من هناك العديد من قصص المعركة التي سمعها من الجنود الذين تعرف عليهم هناك. عدد من قصائده عن الحرب قد نمت من هذه الملاحظات و في احد الصفحات سجل قائمة من المشاهد و الاصوات و المعركة ايضا. من الصعب معرفة فيما لو كان ويتمان يسجل مذكرات جندي واحد او اكثر ام انه فقط يتخيل هذه الاصوات استنادا على ما سمعه من قصص. لكنه في النهاية يوظف معظم الاصوات التي سجلها في قصيدته "رؤية محارب معتزل" حيث لا تترك الاصوات مخيلة الجندي حتى و هو يستلقي نصف مستيقظ في بيته وزوجته تنام الى جانبه و طفلهما ينام قربهما. ضمن اطار اصولاات المعركة، يرسم ويتمان مشهدا بيتيا جميلا لمحارب بعد عدة اعوام من انتهاء الحرب، لكنه يعيشها مرة اخرى ليلا. ذكرنا سابقا سخرية التناقضات التي عايشها ويتمان خلال الحرب، كيف ان الحب والموت و الجمال و الرعب و العاطفة و العنف يمتزجان و يتدفقان سوية. وفي هذه القصيدة عالمان متناقضان تماما—الحياة البيتية و ساحة المعركة—يندمجان مع بعضهما حيث يمزجان سوية ذكريات الحرب المرعبة مع واقع ما بعد الحرب في المنزل مع العائلة. في هذه القصيدة، يمكننا ان نرى كيف ان هذا الحاضر المبهج لا يمكن امتلاكه فعلا، لأنه يمتزج بشكل مستمر مع اصوات و الذكريات المرعبة التي مر بها المحارب خلال الحرب.
في هذه القصيدة التي تدور حول اهمية الاصوات ، يجذب ويتمان انتباهنا الى ان الكلمات يمكن ان تنتقل من معنى الى اخر لتشير من حالة شعورية الى اخرى. في حالة شبه نوم، اول الاصوات التي يسمعها المحارب في الهدوء و الظلام هو صوات انفاس طفله وهو الصوت المطمئن—صوت الامل في حياته في فترة ما بعد الحرب—فيتولد منه اصوات اخرى: فصوت الشهيق و الزفير المتسارعان يذكره بصوت تسارع الطلقات من بندقيته و ربما زحف طفله يذكره بزحف الجنود بحذر الى ارض المعركة. وفي تلاعب لفظي اخر، كلمة طفل infant تذكر المحارب بفرقة المشاة المبتدئين infantry (و التي تشتق من نفس الجذر حيث تعني الجنود المبتدئين ). الكلمات التي تهاجم افكار المحارب ترتبط بالكلمات التي تعبر عن الطفولة—فهدوء ارض المعركة يذكره بالهدوء الذي يساعد الطفل على النوم و صدى تراشق الاسلحة الصغيرة يشبه صوت حبو طفله الرضيع و صراخ الفرقة العسكرية و هي تشحن العزيمة للقتال يذكره بصراخ الطفل الذي يسمعه يوميا. و ندرك عندها ان هذين العالمين اللذان يسكنهما المحارب—العسكري و البيتي –يبدوان متناقضان الا انهما على مستوى الاصوات و الكلمات لا يفصلهما سوى ترتيب الحروف. و على عكس زوجته و طفله، يعيش المحارب في العالمين في الوقت نفسه فيخبرنا ان الحرب انتهت منذ وقت طويل الا ان الاسلوب المتكسر للتعبير عن الحرب يوحي بأنه بالرغم من مرور زمن طويل على انتهائها الا ان الحرب ليست فعلا بعيدة عنه لتستمر حتى بعد التوقف الرسمي للمعارك حتى نهاية حياة المقاتل.
تشكل هذه القصيدة جملة طويلة اخرى حيث المشهد الافتتاحي هو السكون البيتي و الذي ينتقل الى ذكريات الحرب المرعبة حيث تعمل بعض الجمل الاعتراضية على كبت بعض ذكريات الجندي التي يحاول الجندي ايقافها من اجل ان يستطيع العيش بسلام: فالفراغات التي تملأها طلقات الاعداء هي في الحقيقة اجساد الجنود التي اخترقتها الطلقات و الفراغات هي الحفر التي امتلأت بجنود المحاربين. فقط في نهاية القصيدة يسمح المحارب لنفسه في النظر الى الحفر و يرى اجساد الجنود المغطاة بالأحمر حتى وهو ذكر نفسه في عدم النظر.
بين تلك الفوضى الصاخبة عن هذه المعركة يدرك المحارب (في جملة اعتراضية اخرى) بأن صوت المدافع قد اثاره و انه يشعر بالحماسة في اعماق روحه. بمعنى، هو يدرك ان خبرته في الحرب قد تركته غير متأكد بأنه يستطيع ان يشعر بالراحة النفسية وهو في بيته مع زوجته و طفله و السبب هو انه كل ليلة و هو في فراشه ينتقل صوت السكون البيتي ليصبح صوت المعركة، و يصبح صوت الخطر و المغامرة و الاثارة و الذي لا يجده في حياته المنزلية بعد الحرب. و هكذا تنتهي القصيدة بابيات تذكرنا بقصيدة فرانسيس سكوت كي "علم النجوم المتلألأة" (و التي ستصبح النشيد الوطني للبلاد بعد 1931 الا انها كانت وقتها مجرد قصيدة وطنية مميزة منذ عشرينات القرن التاسع عشر) لتذكرنا بأن الامريكيين يستمرون بحياتهم اليومية بعيدا عن ارض المعركة يمارسون حياتهم المنزلية الا انهم يتجمعون سوية ليعيشوا مرة اخرى ذكريات الحرب التي عايشوها.
—EF
رؤية محارب معتزل
بينما تستلقي زوجتي نائمة و الحرب انتهت منذ وقت بعيد، ورأسي يستريح على الوسادة في منزلي ليمر من فوقه الليل الجميل، في السكون، في الظلام اسمع انفاس صوت طفلي الرضيع، هناك في غرفتي استيقظ من غفوتي لأعيش الرؤية الملحة فأرى ارض المعركة هنا و هناك في مخيلتي ليست بالحقيقة ، ويبدأ القتال—و يزحف الجنود حذرين— اسمع صوت الفرقعات! اسمع اصوات مختلف القنابل—وتنفس البنادق؛ ارى القنابل تنفجر الى اشلاء تاركة خلفها غيوما بيضاء— واسمع صرخات القنابل وهي تمر قربي؛ مثل صفير الريح وهي تمر بين الاشجار ( سريعة غاضبة تستشيط غضبا!) كل المشاهد تظهر امامي بكل تفاصيلها؛ الحطام و الدخان—كبرياء الرجال في حطامهم؛ يستعد الرامي و يحضر سلاحه ثم يختار هدفه؛ و بعد الاطلاق اراه ينحني جانبا وينظر ليرى النتيجة؛ --في مكان اخر اسمع صراخ الفرقة العسكرية وهي تستعد— (الضابط الشاب يقود القتال هذه المرة بسيف مزكرش) ارى الفراغات تقطعها طلقات الجنود (لتمتلئ بسرعة—دون تأخير) اتنفس الدخان الخانق—و الغيوم المسطحة تبقى في الاسفل لتخفي الجميع؛ سكون غريب يخيم على المكان لثواني ما من رصاصة تطلق؛ وبعدها يستمر القتال و الفوضى اعلى من السابق، صرخات واوامر من الضباط، ومن مسافة بعيدة تطلق الريح في اذني صوت تصفيق (يا لنجاح) و حتى صوت المدفعية، قريبا كان ام بعيد (يثير في نفسي حماسة غريبة و كل البهجة المجنونة في اعماق الروح) وحركات المشاة في تبادل المواضع— مدفعيات و فرسان هنا و هناك؛ (من يسقط ومن يموت؛ لا يهم—المصاب ينزف دما، لا يهم—البعض يعرج الى الخلف) ظلمة و حرارة و تسارع—معسكرات اسعاف تلوح قريبة، وطقطقة السلاح يوحي باستعداد البنادق (اسمعها او اراها في رؤيتي) و قنابل تنفجر في الهواء و ارى في الليل صواريخا مختلفة الالوان.
خاتمة
يعتقد الكاتب الايطالي بريمو لايفي بأن الناجين من مخيمات النازين انقسموا الى مجموعتين: مجموعة استطاعت ان تنسى الاحداث التي عايشوها بكل معاناتها و مجموعة لم تستطع فعل ذلك. ما كتبه لايفي حول احتجازه في اوشوتز ومن بينها اعماله لو كان هذا رجلا، الغريق و الناجي، و حفرة اشويتز السوداء تشهد جميعها لمحاولته المستمرة لان يصف قسوة النازيين التي لم يستطيع نسيانها و التي ربما ساهمت في دفعه للانتحار في 1987. فالجنود و الدبلوماسيين و الصحفيين و عاملي العمل الانساني—جميعهم يستذكرون خبراتهم خلال الحرب بنفس الطريقة ومن هنا تأتي روابط الحرب التي تجمع المحاربين و المدنيين سوية حتى بعد ان تتوقف الحرب. قصيدة ويتمان "رؤية محارب معتزل" هي مونولوج هي اعادة تصوير لخبرات الحرب المرعبة من وجهة نظر محارب مدفعي بالإضافة الى كونها محاولة تطهير من قبل اولئك الذين يسببون القتل و الدمار للاخرين. فالمونولوج هو طريقة علاجية لتخليص مخيلته من ذكريات الماضي المؤلم.
في سريره في الليل يستيقظ المحارب القديم برؤية للحرب تضغط على مخيلته—اصوات و مشهد المعركة بينما تنام الى جانبه زوجته:
اسمع صوت الفرقعات!
اسمع اصوات مختلف القنابل—وتنفس البنادق؛
ارى القنابل تنفجر الى اشلاء تاركة خلفها غيوما بيضاء—
واسمع صرخات القنابل وهي تمر قربي؛
مثل صفير الريح وهي تمر بين الاشجار ( سريعة غاضبة تستشيط غضبا!)
هذه هي التفاصيل الحسية التي تبقى في الذاكرة ومثلها الدخان الخانق الذي يتنفسه مرة اخرى و الهدوء الغريب الذي يحل في ارض المعكرة و السلام المؤقت الذي يجعل استئناف القتال اسوأ بكثير. من الشائع ان نقول ان الحرب فترة ملل طويلة تقاطعها لحظات مرعبة فيقدم لنا ويتمان هذه الصورة مع صوت المدفعية و طلقات الاسلحة الصغيرة. فلا نعرف هنا فيما لو ان المحارب فاز ام خسر المعركة فما قد علق بذاكرته هي الاصوات التي تشبه حلم اليقظة.
لاحظ ان المونولوج هو مجرد كلمة طويلة واحد—مئات الكلمات تمتد عبر سبعة وعشرين بيتا لتصف ما يمر في ذهن المحارب و لا ينتهي. وهكذا تسكن الحرب مخيلة من يتذكرها حتى اخر نفس. مئات الاف من الرجال عادوا الى حياتهم المدنية بعد معركة ابوماتكوس كورت هاوس و من بين الفضائل الشعرية لويتمان هي عزيمته في ايجاد الكلمات لشفاء تلك المعاناة حتى لو كانت قارئ واحد في كل مرة.
—CM
سؤال
في قصيدة "رؤية محارب معتزل" يقدم لنا ويتمان شخصية جندي يعاني من حالة نفسية نسميها اليوم "اضطراب ما بعد الصدمة". اليوم تعتبر هذه الحالة اضطرابا عقليا معترف بها طبيا تحصل نتيجة التعرض لموقف يسبب الصدمة ومن بينها الحرب. و اضطراب ما بعد الصدمة يتميز بتدفق ذكريات و كوابيس عن الموقف يشبه الى حد كبير ما يصفه المحارب في القصيدة. قام ويتمان خلال الحرب بزيارة الجنود المصابين في المستشفى و سمع من الجنود الذين قطعت اطرافهم ما يصفه الأطباء شبح الطرف المقطوع حيث يتصور المصاب بأن طرفه لايزال موجودا و لا يزال يشعر بألم اصابته في ذلك الطرف. كلا الاضطرابين هما حالاتان طبيتان تساعدنا على فهم ما يمر به المحارب الذي يعيش ذكريات المعركة التي لم تعد موجودة في الواقع. اكتب عن حالة مشابهة عايشتها انت حيث تعيش موقفا مرة اخرى لم يعد موجودا في الحقيقة. كيف تتعايش مع هذا الشعور؟ وهل وجدت ان معايشة الموقف مرة اخرى يبعث الراحة ام الخوف ام الاضطراب ؟
اجب عن السؤال في مربع التعليق ادناه او على صفحة ويتمان في الفيسبوك.