توطئة
خلال العقد الاخير من حياة ويتمان كانت القصيدة الاكثر نشرا او انتشارا له في الانثولوجيات الشعرية هي قصيدته عن اغتيال ابراهام لينكولن –"رئيسي! يا رئيسي!"—حيث وقتها كانت الولايات المتحدة قد انتهت من فترة الاعمار و اصبح لينكولن هو الشخصية السياسية الابرز و لقب ب"المحرر العظيم". لكن خلال فترة الاعمار هذه كانت القصيدة الاكثر شهرة لويتمان هي قصيدة "تعال من الحقل يا أبي" و حتى انه كان يتم تضمينها في النصوص الادبية الدراسية و التي كانت تنتج خلال الفترة التي تبعت الحرب الاهلية. القصيدة تحكي قصة ام تتلقى رسالة تحكي لها اصابة ابنها في ارض المعركة، الا ان القصيدة تتفق مع الشكل التقليدي للأدب العاطفي: فهي تثير الدموع بتأملها الموت و حب الام و الآمال المنكسرة (احد مؤلفي الكتب المنهجية الادبية قال ان قوة القصيدة هي في طريقة تصوير المشهد البيتي). حتى ان ويتمان تلقى رسالة من نساء شابات يستذكرن ان مدرساتهن قرأوا القصيدة ("نحن فتيات و صبيان كنا شباب، كنا فرحين لكن جميعنا شعرنا بنسيم الريف البارد و المشاعر العميقة...لا اعتقد بأن اي احد منا تحرك للحظة بعد ان انتهت القصيدة، وبعدها حصل تصفيق كبير عفوي جاء من قلوب الفتيات و الصبيان و فاجأنا مدرستنا) و ايضا يستذكرن قراءة القصيدة بأنفسهم و ايضا يجعلون جمهورهم يبكي. فلقد صورت القصيدة احساس عميق بالخسارة الشخصية التي عانتها مئات الاف من العوائل في البلاد خلال سنوات الاعمار الحزينة و ساعدت القصيدة في اعادة تصوير ما كتبه ويتمان. ظل ويتمان شاعرا تجريبيا راديكاليا—فالقصيدة دون قافية او وزن ثابت—لكنها بشهادة الكثير من القراء مجموعة من القيم المحافظة و تثير مشاعر معروفة اجتماعيا.
ويتمان صور احداث القصيدة في اوهايو و هي الولاية التي لم يحصل فيها اي معارك كبيرة لكنها ايضا الولاية التي ارسلت 300000 من شبابها الى الحرب. الاف عديدة من هؤلاء لم يعودوا فتصور هذه القصيدة تأثير احد حالات الموت هذه على عائلة في اوهايو. الحقول الزراعية في العديد من الولايات تحولت الى ميادين قتالية حيث دفن العديد من الجنود حيث روت دمائهم الارض وتحللت اجسادهم في الارض (كما ذكرنا ويتمان في "ملايين القتلى باختصار). في اوهايو لم تختلط تربة الحقول بأجساد الموتى و حصاد الخريف لم تتلبسه جثث الموتى: بدلا ذلك تفتح القصيدة بالبيت "بهدوء كل شيء جميل و حيوي و تزدهر المزارع". لكن ليس هناك مكان في البلاد لم تلمسه مجاميع الموتى و هنا الان ابن هذه العائلة المزارعة الذي اسمه بيت سوف لن يعود لتولى مهام المحافظة على المزرعة من والده. و عندما تدعو احدى البنات والدها من الحقل لانه وصلتهم رسالة من بيت، يختفي الوالد من القصيدة عندما ندخل الى البيت حيث الام و الفتيات يجتمعن لفتح رسالة بيت.
صوت O في كلمة اوهايو يصبح جزي من صرخات الام وهي تقرأ "هذا ليس خط ولدنا لكن هذا اسمه/ كتبت يد غريبة نيابة عن ولدنا، يا روح امه الثكلى". فلقد رأينا كيف ان ويتمان كتب الرسائل للجنود المصابين و التي كانت احدى الخدمات التي قدمها في مستشفيات واشنطن وهذه الرسائل يمكن ان تكتب فقط من قبل شخص فكر في تأثير رسائله على قارئيها والتي كتبها عن الجنود الذين كانوا مرضى لدرجة انهم غير قادرين على الكتابة. هذه الرسائل وصلت لعوائل الجنود الذين مباشرة ميزوا اليد الغريبة التي كتبت الرسالة. ونتذكر كيف ان ويتمان في بعض الاحيان يوقع باسم الجندي في هذه الرسالة حيث ان العديد منهم فقدوا اياديهم في المعركة او انهم كانوا ببساطة اضعف من ان يكتبوا. في هذه القصيدة يتخيل ويتمان الرعب الذي يصيب الاهالي وهم يفتحون الرسائل لان الكتابة منفصلة جسديا عن الشخص الذي كان يجب ان يكتب و هي الحقيقة التي تكشف لهم ان الجندي ربما قد مات بينما وصلتهم الرسالة—حيث غابت عنه الحياة و كما غاب خط اليد المألوف من الرسالة التي وصلتهم. حتى اسم الجندي مكتوب بخط غريب و هذا الانفصال الجسدي يوحي بفقدان الهوية. عندما تحاول الام في القصيدة قراءة الرسالة، فالرسالة نفسها تتكسر الى اشلاء: كل شيء يطوف امامها، ومضات الحبر الاسود و تتلقى الكلمات الرئيسية فقط و جمل مكسورة. تستطيع الام فقط ان تستوعب قطعا منكسرة من الرسالة جملا مبتورة فتظهر الحروف على انها انعكاسا لجسد ولدها المكسر و الذي لا يمكن اصلاحه. ما لا تستطيع رؤيته في الرسالة هو ضمير المتكلم "انا" لأنه بالرغم من انه يجب ان يكون هناك الا انه مكتوب بخط يد غريبة و هذا ما يجعل الام غير قادرة على ان ترى في الرسالة هوية ولدها. بالرغم من ان الرسالة تقول ان بيت سوف يتماثل للشفاء الان الام تعرف انه قد مات. فشكل الرسالة المكسور يتحدث بصوت عالي اكثر من الكلمات نفسها.
فكل خصوبة التربة في اوهايو في فصل الخريف لا يمكن ان تحافظ على حياة احد. الاب تلاشى وهو في طريقه عائدا من الحقل (كما تلاشى بيت من الحلق ايضا) و الام الان تترك وجباتها دون ان تمد يدها اليها لترفض خصوبة الارض و تتوجه نحو نفس اللامكان الذي ذهب اليه بيت—تفتت الهوية التي تبددت مع الرسالة التي كتبها ويتمان بخط يده بدلا من خط الجندي.
—EF
تعال من الحقل يا أبي
تعال من الحقل يا أبي، ولصتنا رسالة من بيت؛ و تعالي لشرفة المنزل يا امي—وصلتنا رسالة من ابنك العزيز. انظروا انه الخريف؛ انظروا حيث الاشجار غامقة الخضار و ومصفرة و فيها احمرار، في قرى اوهايو الجميلة و الاوراق تتطاير مع الريح العذبة؛ حيث التفاح الناضج يتعلق من الاشجار في البستان و العنب يملأ الكرمات؛ (هل تشم روائح العنب في الكرم؟ هل تشم الحنطة السوداء حيث كان النحل كان يطوف؟) وانظر الى السماء، هادئة جدا و شفافة بعد المطر و الغيوم المتجولة؛ انظر الى الاسفل ايضا، كل شيء هادئ وحيوي و جميل—وتزدهر المزارع ايضا. الحقول تزدهر بشكل جميل؛ لكن الان اترك الحقل يا ابي—تعال لبي نداء ابنتك؛ تعالي الى مدخل المنزل يا امي—الى الباب الامامي تعالي الان. تسرع بقدر ما تستطيع—هناك شيء لا ينبأ بخير—ترتجف الخطوات على الطريق؛ لا تتوقف لترتب شعرها الابيض، و لا لتربط قبعتها. افتحوا الظرف بسرعة؛ هذا ليس خط ولدنا، لكن هذا اسمه مكتوب: يد غريبة كتبت لولدنا—يا لقلب الام الجريح! كل شيء يطوف امام عيناها—ومضات من سواد—فتقرأ الكلمات الرئيسية؛ جملا منكسرة—اصابة في الصدر، مواجهة بين الفرسان، اخذ للمستشفى، حاليا مريض لكنه سوف يتحسن. من بين عوائل اوهايو الغنية بكل مدنها و مزارعها، بوجه شاحب ومتوترة الافكار، مغشيا عليها تتكأ على مقبض الباب. لا تحزني هكذا يا امي، (قالت الفتاة التي نضجت للتو وهي تبكي؛ و الاخوات الصغيرات تجمعن حولها، لا يستطعن قول شيء) انظري امي الرسالة تقول بيت سوف يتحسن. يا الفاجعة، ولدي المسكين، سوف لن يتحسن ابدا (وربما لن يحتاج ان يتحسن ولدي الشجاع) وبينما يقفون على باب المنزل، كان الصبي قد مات فعلا، الولد الوحيد قد مات. لكن الام يجب ان تتحسن؛ بجسدها النحيل ترتدي السواد؛ لا تأكل طعامها—و في الليل لا تنام جيدا، تستيقظ في منتصف الليل لتبكي تشتاق لاشتياق وحيد؛ فتتمنى ان تنسحب دون ان يلاحظها احد—لصمت الحياة، تهرب و تنحسب، لتلحق و تسعى وراء ولدها الحبيب.
خاتمة
من الصعب ان نقتفي اثر التأثير الشعري. التقارب الروحي و المزاج و الذوق الادبي و اللغة و الجغرافية المكانية و الهوية العرقية و الهوية الجنسية و الفكر السياسي—كلها تجتمع بطرق غامضة لتشكل الميراث الشعري الذي لا قد يعترف به الشاعر. الاستثناء لذلك هو الشاعر اليسوعي جيرارد مانلي هوبكنز. "لطالما عرفت في قلبي ان لوالت ويتمان عقلا يشبه عقلي اكثر من اي رجل اخر في العالم" كما كتب لصديق له في 1882. و اضاف قائلا "وحيث انه معروف بكونه رجلا سيئا ارى ان هذا ليس بالاعتراف الجيد". بالرغم من ان قصيد "تعال من الحقل يا ابي" هي احد القصائد الثلاثة التي اعترف هوبكنز بأنه قد قرأها الان تناغم الاصوات و التشديدات اللفظية المفاجئة في عنوان و البيت الافتتاحي للقصيدة ساعدت هوبكنز على تطوير الاوزان الشعرية التي اتبعها الاخير في شعره و الذي كان تقدما في للشعر الانكليزي كما هو الحال مع شعر ويتمان الحر. هوبكنز لم يعتبر ابيات ويتمان شعرا بل مجرد نثر موزون بشكل غير منتظم الا انه تفهم البحور البسيطة في الشعر: من كلا جانبي المحيط الاطلسي افتتح هذين الرجلين جسورا صوتية يمر من خلالها الشعر بين القارتين.
يحصل في بعض الاحيان ان يتأثر شاعر بأعمال ثانوية لشاعر اخر مستمتعا بعبارة واحدة او مجموعة اصوات: التناسق اللفظي بين كلمتي حقل و اب اللذان يبدأن بنفس الصوت في اللغة الانكليزية و هذا التناغم الصوتي بين الاصوات الاستهلالية يميز شعر هوبكنز خاصة في احد قصائده "طاحونة الهواء" و التي يتميز كل بيت فيها بتماثل صوتي للحرف الاول من كل كلمة في البيت. موضوعة القصيدتين ونوعيتهما الشعرية غير متشابهتان تماما: فقصيدة هوبكنز هي مديح للسيد المسيح يؤكد فيها ان "قلبه يختبأ/يرتجف للطير—لتتحقق الاشياء" بينما قصيدة والت ويتمان هي صورة خيالية عن ردود افعال العائلة وهي تقرأ رسالة ابنهم الاخيرة و التي تعطي مشاعرا مكبوتة. فالام الثكلى مثل السيد مريم التي فقدت ولدها لن تستطيع ان تجد عزاءا دينيا و لن تجد متنفسا لحزنها و لن تجد سبب يمنعها من اللحاق بالموتى الى الارض التي تدفنهم. الرسالة مكتوبة بخط يد غريبة عليهم وهي من بين الاف كتبها ويتمان، وصلت خلال فترة حصاد الخريف، و خصوبة هذه الحقول تذكرنا بأن الحقول الاخرى مليئة ببقايا جنود الكونفدرالية: ابشع حصاد يمكن تخليه.
وصف ويتمان لصدمة الام—"شاحبة الوجه و متوترة مغشيا عليها/تتكأ على مقبض الباب"—يذكرنا ببيتين في "اغنية نفسي": "افتحوا الابواب من مقابضها!" و "اتكأ و استدير باسترخاء...اراقب رماح العشب الصيفي". في مجموعة الافكار في اعماله الشعرية قبل الحرب يقترب ويتمان من هوبكنز الذي "يستيقظ و يشعر انه يسقط في الظلام و ليس في النهار". البديهية التي ينطلق منها احتفال ويتمان بذاته و بالكون تغيرت مع الحرب التي تركت الاف الرجال و النساء المفجوعين الذين يريدون الانسحاب دون ان يلاحظهم احد—بعيدا عن الحياة" هذه هي الاغنية التي يريد غناءها الان.
—CM
سؤال
"تعال من الحقل يا ابي" هي قصيدة تعتمد على العلاقة التي يراها الناس بين خط اليد للفرد (الخط الخاص الذي يعرف الشخص من خلال النظر الى تناقضات رسم الحروف التي تميز خط احدهم من الاخر)و هوية الشخص الذي يقوم بالكتابة. في العصر الرقمي الذي نعيش فيه ربما فقدنا هذا الترابط بين خط اليد وهوية الشخص الذي يقوم بالكتابة لان معظم تواصلنا الكتابي يحصل من خلال النصوص الالكترونية. ومع ذلك ما زلنا نحتفظ بتلك الاوراق المكتوبة بخط اليد و مخطوطة الكاتب لا تزال تحتفظ بسحرها. كان هناك الاف من خبراء الخط الذين ادعوا انهم يستطيعون قراءة شخصية الانسان من النظر الى خطه. فكر في خط احدهم يمكن ان تميز الشخص الذي كتبه و حاول ان تعرف الخصائص التي يجعلك تميز هذا الخط. كيف تصف علاقتك بكتابة هذا الشخص و خط يده؟
اجب عن السؤال في مربع التعليق ادناه او على صفحة ويتمان في الفيسبوك.