توطئة
مثلما تعامل المقطع الخامس و العشرين، فأن المقطع 26 يتعامل مع لغز حاسة السمع. نحن نفتح اعيننا و بعدها تتدفق الخبرات البصرية بشكل كبير و مستمر. ومع ذلك فأن الاذان ليست قريبة: فأصوات العالم تحمل ذاتها بسرعة على موجات لتصل الينا وهنا ويتمان يتوقف ليستمع و يستوعب الاصوات من حوله وهي تختلط ببعض ("كل الاصوات مندفعة معا") في اغنية نفسه. وكما هو الحال مع العيون فأن الاذان ايضا تجلب مجموعات متناقضة من الخبرات للذات من اصوات العمل وحتى اجراس الانذار الى اصوات المجادلات الى اصوات الصرخات طلبا للمساعدة الى اصوات الاوبرا و حتى اصوات الجنازات. جميعها "جوقة موسيقية" واحدة تمتزج فيها اصواتا لا تنتهي للحياة من حوله ومثل هذه الموسيقى المتنوعة تناسب اذن الشاعر. ينهي ويتمان المقطع باستذكار لخبرات حسية عميقة عن الاستماع لتلك "الاوبرا العظيمة". احب ويتمان حضور الاوبرا و كتب عنها مراجعات نقدية تؤكد على ذلك التأثير الذي يصيبه من الاوبرا. و هنا، تحمله تلك الاصوات الى نشوى الخيال—ليكون واقفا خارج ذاته—و هو يستشعر الموسيقى و كل ما تحمله من مشاعر التي تأخذه الى النظام الشمسي و بعدها تحمله عبر المحيطات و العواصف الثلجية. هذه الخبرات هي خبرات حسية و صوفية في الوقت ذاته. و حيث انه يستمع الى تلك الاصوات الموسيقية التي تعزف بنوتة موسيقية لا يستطيع البشر الاعتياديون مواصلتها، فأنه يشعر بنايه وهو يعزف مع انفاسه التي ستنطلق مع اخر نفسه و عندما يسترجع النفس يستشعر باللغز العميق "نبض النبضات" الذي نسميه "الكينونة". وكقراء نحن نصبح مدركين بأن خبراتنا التي تستوعب "اغنية نفسي" لويتمان من خلال اذاننا و اعيننا يمكن مقارنتها بالخبرات الحسية، لتتركنا مندهشين و على حافة الوصول للأجوبة عن اهم الاسئلة.
—EF
ليس لي الآن سوى أن أنصت لأصوغ ماأسمعه في هذه الأغنية ولأجعل الأصوات فيها : انني أسمع تغريد الطير وحفيف الذرة النامية وحديث اللهب وطقطقة الفروع التي تنضج طعامي انني أسمع الصوت الذي أحب صوت الصوت الانساني انني أسمع كل الأصوات ، مندفعةً معاً مختلطةً ، ممتزجةً ، أو متتابعةً أصوات المجينة أصوات النهار والليل أصوات فتيّة تتحدث الى من يحبها وضحكة العمال العالية ، لصداقة انفصمت والأصوات الواهنة للمرضى صوت القاضي المتشبث اليدين بالمنضدة - وشفتاه الشاحبتان تعلنان حكماً بالاعدام . أصوات العمال وهم يفرغون السفن صوت رافعي المرساة رنين أجراس الانذار صيحة الحريق وهدير المكائن الناعم ، وعربات أنابيب المياه - ذات الدقات المنتظمة والألوان الزاهية . الصفارة البخارية ، وقافلة العربات المقتربة والمارش البطيء أمام السرّية التي تسير اثنين اثنين (إنهم ذاهبون لحراسة جثة ما) (وأطراف الراية متشحة بالموسلين الأسود) إنني أسمع الفيولونسيلو (انه القلب الشاكي للشاب) أسمع البوق ذا الكبّاسات ، إنه ينزلق سريعاً في مسمعيّ ويثير دقات مجنونة ، عذبة ، في أحشائي وصدري . أسمع الجوقة ، إنها أوﭘرا جليلة حقاً ، إن هذه لموسيقى ، إنها التي أستعذب مغني « التينور » العالي والطريء كالخليقة … وتملؤني والأمالة الدائرة لفمه ، تتدفق فيّ . وتملؤنني أسمع مغنية السوﭘرانو المتمرسة (آهٍ لما تفعل ؟) والأوركسترا تقذف بي أبعد من « أورانوس » إنها لتثير فيّ خصالاً لم أكن أعرف أني امتلكها إنها تبحر بي عاري القدمين … مدغدغ القدمين ، بالموج المترجح إن عاصفةً مريرةً غاضبةً تجتاحني إنني منقطع الأنفاس انني أهوي وسط المورفين المعسل مختنقاً بحشرجة الموت أخيراً ، استفيق لأحس بنبضة النبضات إنها مانسمّيه : الكينونة
والآن لن أفعل شيئاً سوى أن أصغي، وأضمّ ما أسمعه إلى هذه الأغنية، وأترك الأصواتَ تشاركُ في صياغتِها. أسمعُ شدوَ الطير، وحفيفَ القمح النامي، ثرثرةَ النيران، وطقطقةَ الحطب الذي يطبخُ طعامي، أسمعُ صوتَ الحبّ، نبرةَ الصوت الإنساني، أسمع الأصواتَ كلها تجري معاً، مجتمعةً، ممتزجةً، أو متناوبةً، أصواتاً من المدينة وأصواتاً من خارج المدينة، أصوات النهار والليل، هرجَ الشبّان مع أقرانهم، والضحكة العالية للعمّال وهم يتناولون وجباتهم، القاعدة الغضبى للصداقة المفصودة، النبرات الخافتة للمرضى، القاضي بيديه المضمومتين فوق المنضدة، وشفتيه الشاحبتين اللتين تنطقان بحكم الإعدام، غمغمات العتّالين وهم يفرغون السفن على الميناء، والإيقاع المنظّم لرافعي الصواري، رنين جرس الإنذار، صرخة النار، هديرُ المحركات السريعة، والزحّافات الصغيرة بصريرها المنذر وأضواءها الملونة، صفير البخار، والتدحرج الصلد للقطار بعرباته المقتربة، الموسيقى البطيئة تُعزَفُ في مقدمة الموكب الزاحف اثنين اثنين، (إنهم ذاهبون لحراسة جثة ما، حيث حوافّ الأعلام مزيّنة بحرير أسود.) أسمعُ مقطوعة الكمان "فيولنسيللو،" (إنها شكوى قلب العازف) أسمعُ البوقَ المتوثّب، إنه ينسلّ بسرعة عبر أذني، ويحرّك آلاماً حلوةً، مجنونةً، في صدري وجوارحي. أسمعُ الجوقةَ، إنها أوبرا رفيعة، أوه، إنها حقاً موسيقى- وهذا يحلو لي. مغنٍ صدّاح، صوتُه عالٍ وغضّ، يملؤني كالخلق، الثنية المقوّسة لفمِهِ تنسكبُ وتملؤني حتى الثمالة. أسمعُ صوتَ المغنية "السوبرانو" المحترفة (أيّ دور منوطٍ بها؟) الأوركسترا تعصفُ بي، وتذروني أعلى من كوكب يورانوس، إنها تنتزعُ ذاك الحماس منّي مما لم أكن أحسبُ أنني أملكه، إنها تبحر بي، أربّتُ بأقدامٍ عارية تلحسُها أمواجٌ كسولة، أنشطرُ ببَرَدٍ غاضبٍ ومريرٍ، أفقدُ أنفاسي، أنغرسُ وسط خَدَرٍ مُعسّل، قصباتي الهوائية تغصّ بخفق الموت، أخيراً يُطلَق سراحي، لأتحسّسَ لغزَ الألغاز، وذاك ما ندعوه الكينونة.
Song of Myself, Section 26 —poem read by Nadia Fayidh
خاتمة
في منتصف القصيدة، هذه المخطط للذات، ومع ادراك حدود الكتابة و التحدث وراءه و المستقبل الذي لا زال قيد الحصول، قرر ويتمان "فعل لا شيء سوى الاستماع" و ما يستمع له في الفراغ الابيض بين المقطع الاول و الثاني هي الاصوات التي سوف تساهم في بناء بقية القصيدة، بدءا من التعبير الصارخ عن الفرحة—"تغريد الطيور، و حفيف الذرة النامية، و حديث اللهب، و طقطقة الفروع التي تنضج طعامي". و بعدها جاءت ترنيمة الاصوات البشرية، و التي يعشق كل واحد منها، حتى صوت القاضي الذي يلفظ حكم الموت. خاصة القاضي، اكثر الشخصيات اهمية في هذا المقطع، حيث انه عندما نتوقف لنلفظ انفاسنا، عندما نصغي فعلا للنبض في شراييننا، فأننا قد نسمع لشيء من صوته و هو يقرأ الحكم الذي يصلنا عند الولادة. ليس هناك من طريقة افضل لتحمل الحكم العام الذي يشملنا جميعا؟ هذا ما يفعله الشاعر في استذكاره للأوبرا—كيف يعزف البوق في بطنه و صدره؛ و المحتوى يملأه؛ و مغنية السبرانو تعمل مع الاوركسترا لتستخلص لهيبا خاصا من روحه. قام دبليو دي سنوغراس باقتراح مهم حول اصول الفن الشعري لويتمان: وهو الفطنة انه من خلال اختلاط الايقاعات المختلفة للأوبرا و الرقص الشرقي، تلك العروض التي حضرها كثيرا خلال بقاءه في نيو اورلينز، فأنه تعلم كيف يقوم بترجمة موسيقى الخليقة—"لاحس بنبض النبضات انها ما نسميه: الكينونة". و الان سوف نسمعها كليا.
—CM
سؤال
كيف تغيرت كل تلك الاصوات التي تستمع عليها خلال كل الاعوام؟ ما هي اهمية كورس الموسيقى اليومي هذا لحالتك العاطفية؟ و لماذا؟