توطئة
في هذا المقطع تستمر قصة الحرب لكن هذه المرة تحكي قصة الحرب الثورية في المعركة البحرية على الساحل البريطاني بين سفينة بونهوم ريتشارد لجون بول جونز و السفينة البريطانية سيرابيز. كان جد ويتمان الاعظم يخدم تحت امرة جونز و ويتمان تذكر قصة المعركة التي حكاها جده لجدته من امه (وايضا اعتمد على رواية جونز عن المعركة في رسالة الى بنجامين فرانكلين حيث كان ويتمان يحتفظ بنسخة مطبوعة عنها). و مثل معركة كوليتو و المذبحة في غولياد التي ذكرت في المقطع السابق، فأن قتال البحر هذا هو مجرد جزء من سلسلة حروب امتدت و وحدت الولايات المتحدة لكن من المثير للسخرية انها فعلت ذلك على حساب الوحدة ذاتها، حيث كانت النتيجة دائما الموت و الانقسام و التشتت و الخسارة. القصة هنا هي عن القبطان جونز الذي كان لديه الشجاعة للبقاء حي و الاستمرار عندما كان الاستسلام هو الخيار الوحيد، لكنها ايضا قصة الموت المنتشر: و ان كلا الجانب البريطاني و الامريكي خسرا نصف طاقميهما في هذه المعركة. يمتد هذا المقطع بالطريقة التي يستوعب فيها الخبرة في قصيدته. و الان هو لا يستوعب الخبرات التي يعيشها مباشرة وما تجلبها له حواسه لكنه ايضا يستوعب القصص التي سمعها، ووضح كيف يستوعب هذه القصص و يجعلها جزءا من روحه كما لو كانت تلك الخبرات الحسية التي استعرضها في المقاطع السابقة. في النهاية، القصص هي خبرات حسية ايضا فهي تدخل لعقولنا من خلال اذاننا و عيوننا و مثل غروب الشمس المؤثر فأنها يمكن ان تغيرنا للابد. و هكذا في هذا المقطع يحكي لنا ويتمان القصة كما لو ان جده الاعظم هو الذي يرويها مباشرة لنا. يمكن للأشياء التي حصلت قبل ولادتنا ان تؤثر فينا من خلال القصص السحرية، تماما مثل قصص خلق الكون و التطور البطيء لأشكال الحياة التي تدرجت حتى وصلت الينا هي جز مهم منا حتى لو لم نكن هناك للإحساس بتلك التطورات في حواسنا. نحن ننسج اغنية انفسنا من العديد من الاشياء الغريبة و الرائعة و المرعبة ايضا.
—EF
أتريدون أن تسمعوا عن معركة بحرية قديمة ؟ أتريدون أن تعرفوا من انتصر ، في ضوء القمر والنجوم ؟ اذن … فاسمعوا الى حكاية والد جدّتي ، البحّار ، الذي رواها لي : لم يكن عدوّنا هيناً (هكذا قال) كان انكليزياً شجاعاً ، لاأشدّ ولاأوثقَ منه ، ولم يكن - ولن يكون - أشد وأوثق منه . اندفع نحونا ، مرِعباً ، في المساء الهابط اشتبكنا معه وتشابكت المدافع ببعضها وكان قائد سفينتنا يطلق بيديه النار ، مسرعاً لقد تلقّينا قتابل زنة ثمانية عشر رطلاً ، تحت الماء وعلى سطح مدافعنا السفلى انفجرت قنبلتان ضخمتان ، في الاطلاق الأول . قتلتا كل من حولهما ، وتفجرّتا فوق رؤوسنا حاربْنا في الغروب ، حاربنا في الظلام . وفي العاشرة ليلاً ، كان القمر مرتفعاً … وبدأ الماء يتسرب الى سفينتنا … خمسة أقدام من الماء وأطلق القائد المسلح سراح السجناء المقيّدين ليمنحهم فرصة النجاة بأنفسهم ومنع الحرس التنقل من مخزن السلاح واليه فقد رأوا وجوهاً غريبة لايعرفون بأيها يثقون . اضطرمت النار في سفينتنا وسألتنا الأخرى إن كنّا نريد ملجأً أو أن أعلامنا قد أصيبت أو أن المعركة قد انتهت . الآن أضحكُ مرتاحاً ، فأنا أسمع صوت رئيسي الصغير : « نحن لم نصبْ … » « لقد بدأنا الآن - حسب - حصّتنا من القتال » ثلاثة مدافع فقط يمكن استخدامها أحدها صوّبه الكابتن بنفسه ناحية صارية العدو الرئيسية والاثنان محشوان جيداً بالعناقيد والعبوّات … ثلاثة مدافع … تُسكت بنادقه ، وتُخلي سطوحه . أعالي السفن وحدها صمدت أمام بطاريتنا الصغيرة هذه صمدت خلال المعركة بأسرها … تتوقف المعركة لحظة كان الماء يتسرّب الى سفينتنا ، ويغمر المضخات و كان النار تسري الى مخزن البارود أصابت قذيفةٌ إحدى المصفحات فقذفت بها بعيداً وأعتقدنا أننا غارقون … ولكن الكابتن الصغير كان يقف هادئاً … كان مطمئناً ، مطمئن الصوت وكانت عيناه تمنحاننا من النور أكثر مما تمنح المصابيح القتالية في الثانية عشرة … وتحت أشعة القمر … استسلموا لنا .
أتريدون أن تسمعوا عن معركة بحرية قديمة؟ أتريدون أن تعرفوا من انتصر في ضوء القمر والنجوم؟ أنصتوا للقصة كما رواها والد جدتي البحّار. عدونا لم يكن جباناً في سفينته، دعوني أقول لكم- (قال) كانت شجاعته إنكليزية فظّة، حقيقية و متينة، لم يبزّه –ولن يبزّه- أحدٌ البتّة، انقضّ علينا، مفزِعاً، تحت جنح المساء الهابط. اشتبكنا معه، وتشابكت المسافات، والتحمت المدفعيةُ، وربّان سفينتنا اندفعَ بأقصى سرعته، بأقصى سرعةٍ ليديه. أمطرونا بوابل من الطلقات تحت الماء، في القسم السفلي من مدفع الدكّة انفجرت قطعتان ضخمتان سرعان ما شبّت فيهما النيران، قاتلةً كل من حولها، متابعةً تفجّرها فوق الرؤوس. واستمرّ القتالُ في الغروب، في الليل، في العاشرة ليلاً، في منتصف الليل، والقمر التمام في أعلى سمائه، واستمرّ تسرّبُ الماء إلى سفينتنا، بل قيل بلغَ ارتفاعها خمسة أقدام، ضابطُ النظام في السّفينة أطلق سراح السجناء لكي يعطيهم فرصة للنجاة بأنفسهم. وأوقف الحرسُ الحركةَ من وإلى مخزن الذخيرة لأنهم يستطلعون الآن وجوهاً غريبة يرتابون بها. سفينتنا تتعرّضُ للنيران، أحدهم يسأل إن كنا نحتاج إلى إغاثة؟ وهل أُصيبت راياتنا وانتهى القتال؟ في هذه اللحظة أضحكُ، راضياً، لأنني أسمع صوت القبطان الشاب يصرخ: لم نُصَب، الآن بدأ دورنا في القتال. ثلاثة قطعٍ للمدفعية فقط جاهزة للاستعمال، إحداها تحت إمرة القبطان نفسه الذي يصوّب نيرانه باتجاه الصارية الرئيسية لسفينة العدو، واثنان آخران محشوان جيداً بالبارود والشظايا العنقودية، تُسكتان خططَ العدو وتخليان مواقعه. أعالي السفينة فقط امتصت نيران هذه البطارية الصغيرة، وخاصة الصّارية الرئيسية، وجميعها صمدت بشجاعة طوال مجرى المعركة. لا توجد لحظة توقف، المياه المتسربة ترتفع أكثر فأكثر، والنيران تشق طريقها باتجاه مخزن البارود. إحدى مضخاتنا نُسفت، وظننا جميعاً أننا نغرق. هادئاً، يقف القبطان الشاب، إنه ليس في عجلة من أمره، صوته لم يكن عالياً أو خفيضاً، عيناهُ تشعّان نوراً أكثر من قناديلنا الحربية. حوالي الثانية عشر ليلاً، وتحت أشعة القمر، استسلموا لنا.
Song of Myself, Section 35 —poem read by Nadia Fayidh
خاتمة
الصراع يولد القصص كما يعرف كل المقاتلين و مراسلي الحروب. فلقد كان الانقسام و الدمار هما الوسائل الرئيسية لإعادة رسم الحدود و اعادة تعريف هوية المجتمعات في كل التاريخ المسجل؛ قصص المعارك المنتصرة و الخاسرة و الشجاعة و الجبن و الالم و الدهشة—كل هذه تشكل النظام الجديد. ليس من الصدفة ان هوميروس وضع اساس الادب الغربي في ملامحه الحربية (الالياذة) و رحلات المحاربين (الاوديسة)؛ حيث ان الحرب تمتحن معنويات الافراد و الامم على حد سواء و تضع اساس مستقبلهم؛ فالقصص تحكى مرات ومرات، قصص الافراد و الشعوب، و توجه طبيعة عادات البلاد و مؤسساته السياسية. ان الحرب تشكل الكثير من موروثنا الثقافي. اهمية الحرب في ملحمة ويتمان تتبلور اكثر في المقاطع 34-36 في قصة المذبحة و قصة جده عن المعركة البحرية التي خاضوها فير الحرب الثورية و جرده للخسائر الحربية في كل معركة. اذا كان هوميروس يغني بنفسه في الالياذة عن غضب الانسان و يضع استعراضات السفن و معارك الاغريق و مقاتليهم، فأن ويتمان يوسع اغنيته عن الذات الديمقراطية لتتضمن الحرب—"استمرار السياسة بطريقة اخرى"—حسب ما يقوله كلاويتز . لاحظ اللهجة السوداوية لهذه الحكايات التي تمهد لقصص الحرب الاهلية. و بالفعل في ذكرياته عن الانتصارات و المآسي الماضية يبدو انه لا يزال يرى تلك المأساة التي شكلت الحياة الامريكية. و لاحظ ايضا بان بطولة القبطان تصلنا في مشاهد سفك الدماء. ما من احد يهرب من نقمة الحرب. ان الجزء الاصعب في الكتابة ربما يكون الاستمرار على قيد الحياة لحكاية القصة. مرة كنت في لبنان و كنت اوضح لاحد الصحفيين وجودي على سطح البناية لمراقبة الصراع في مخيم لاجئين (ذهبت لأتمشى نحو البحر و الجنود في نقطة التفتيش اطلقوا النار قرب رأسي و استجوبني احد الضباط) عندما اشارت الي الصحفية بيدها. فقالت لي اني احسدك. فالان انت تملك قصة تستطيع ان ترويها. وهنا يمكن ان يضيف ويتمان: ونحن جميعا كذلك.
—CM
سؤال
فكر في قصة اخبرك بها شخص اكبر منك بكثير، قصة شيء حصل قبل ولادتك بزمن طويل لكنه اثرت بك كما تؤثر بك الاحداث التي تحصل اليك مباشرة. كيف تتغير هذه القصة و انت تعيد رواياتها الى الاخرين؟ كم من القصة لا يزال سجلا فعليا عن الاحداث التي حصلت في الماضي و كم من القصة اضفته انت من الخبرات الحالية.