توطئة
يبدأ ويتمان هذا المقطع بفعلين—"تباهي" و "نعماك" و التي يحولهما الى اسماء. ان هذا الشاعر يحب ان يخلق مثل هذه الاسماء من الافعال وذلك لأنها تشير الى كيف تتعالج و تتطور جميع الاشياء. فما من شيء في هذا العالم ثابت و غير متغير؛ ك شيء ينمو و يضمحل و الذرات التي تشكل كل شيء هي في حركة دائمة و تتحول في النهاية الى اشياء اخرى. وهكذا فأن اجسادنا هي عمليات و ليست اشياء، دائما تتحول و تتغير. و هكذا فأن الشاعر لم يتأثر بشروق الشمس الذي يتباهى بحرارته و ضياءه على العالم فهو يضيء السطوح فقط. فالشاعر لا يحتاج لان يتمتع بنعمة شروق الشمس، لأنه هو سوف يضيء اكثر مما تستطيع الشمس من خلال اختراقه لما هو بعد سطح الاشياء و الاشخاص الذين يواجههم حيث يمكن ان يرى الحركة و التغيير و اليأس و الامل. ومع رجوع ثقته، يتحدى الشاعر الشمس و الارض و مستعدا لمطابقة طاقاته مع طاقاتهم: و يبدو ان الارض تريد شيء ما من بين يدي الشاعر، ولذلك قام بتنظيم قصيدته الارضية ، قصيدة لا تتحيز مثل الارض نفسها لترحب بكل شيء يتنعم بنور الشمس. و حيث انه مليء بالطاقة الروحانية مرة اخرى، فأنه مستعدا الان لاحتضان الجميع حتى لو كانوا منحطين مذللين و محرومين.
المتوحش الانيس و المتدفق في المقطع 39 يتحول هنا الى الانا الذاتية للشاعر و هذه الانا تحصل على الشخصيات الاسطورية للقصص الطويلة و القوة المغناطيسية للشافي و المنقذ. هذه الانا التي بدت قبل بضعة مقاطع قد فقدت طاقاتها التوسعية و الاستيعابية، اصبحت الان اكثر قوة من قبل. فهي تزور العاجز و "تنفخ فيه الجسارة"؛ تضع "القبلة الاليفة" على وجوه العبيد في حقول القطن و "منظفي المراحيض"، و تقذف بذورها في "النساء المهيأات للأخصاب"، و تستبدل "الطبيب و القسيس" عند فراش المحتضر، انها تستحوذ على أي شخص يشعر بأنه يسقط و ترفعه بقوة هائلة، انها تعد بأن تفعمنا بأنفاس هائلة من اجل ان تنهضنا، و تعد بأن تقدم لنا الحراسة ونحن نائمون. هذه الانا الحيوية سوف لن تعطينا المحاضرات او صدقة يسيرة ، لكن مثل ما فعل الكاتب هنري ديفيد ثورو، سوف يعطينا نفسه (ثورو في كتابه "والدن" طب من الناس ان تعجبهم "اعمال الخير" و طالبهم بأنهم اذا اعطوا المال يجب ان يعطوا انفسهم معه). من خلال النظر الى الارض للحصول على التوجيه، فأن الانا التي يقدمها الشاعر تعرف بأن يديها يجب ان تقوم بشيء حيوي و مهم، و بفعل ذلك، كما هو حالي يدي الشافي و العاشق (مثل الشاعر) فأن يديه تصل الان لكل الرجال و النساء ومن اجل ان يعبر عن "ذلك النبض الذي يملأ ليالي و نهاراتي". و هنا توجد حاجة مكتومة عند الشاعر للاتصال بمواطنيه و بنا، و بقرائه و حاجة لان يلهمهم—ينفخ فينا الحب و الامل و الطاقة لحياة جديدة.
—EF
ياتَباهيَ نورِ الشمس … لاأريدُ نُعماكَ ، فامض عنّي إنّك تضيء السطوح وحدها أما أنا ، فأقتحم السطوح والأعماق أيضاً . أيتها الأرض … يبدو أنّك تبحثين عن شيء في يديّ قد أقول كيف أحبّكم ، لكنّي لاأسبطيع . يارجل ، ويا امرأة وقد أقول مافيّ ومافيكم ، لكنّي لاأستطيع وقد أقول عن ذلك النبض الذي يملأ لياليّ ونهاراتي . انتهوا ! إني لا أعطيكم محاضرات ، أو صدقَةً يسيرة ولئن أعطيتُ ، لأعطينَّ نفسي أيها العاجزُ ، أطلقْ ركبتيك من عقالهما افتح لي أضلاعك لأنفخ فيها الجسارة ابسط راحتيك ، وأرفع مغاليق جيوبك فلديّ الكثير … وكل مالديّ ، امنحهُ . لاأسألك من تكون ، فلا يهمّني هذا أنت لن تفعل شيئاً ولن تكون شيئاً إلا ما جبلتك عليه . لكادح حقل القطن ، أو منظف المراحيض قبلة أليفة على الخد اليمين . وفي روحي ، أقسم ، أنني لن أحزنه أبداً . للنساء المهيآت للاخصاب ، أهيئُ أطفالاً أعظم وأرشق (إنني أتدفق اليوم بجوهر جمهوريات مقبلة أكثر كِبراً) الى كل محتضر ثمة أسرعُ ، وأدير مقبض الباب وأضع ملابس الفراش أسفلَ السرير وأدع الطبيب والقسّيس يغادران الى منزليهما . أمسكُ بالرجل الذي يهوي … وأرفعه بإرادة قاهرة آه ، أيها البائس ، هاهي ذي عنقي ووالله لن تسقط اعتمدْ - بكل ثقلك - عليّ إنني أُفعمك بأنفاس هائلة ، إنني أُنهضك وكل حجرة في المنزل أملؤها بقوة مسلّحة بأحبائي ، محيّري القبور نم … فلأكوننّ معهم ، حرسك طوال الليل ولن يجرؤ أي مرض أن يمسَّكَ لقد عانقتك ، فامتلكتك وعندما تستيقظ صباحاً - فسوف ترى أن ماأخبرتك هو حق.
يا غرورَ شروق الشمس، لا أحتاج دفئكَ، أنتَ تضيءُ السّطوح وحدها، أما أنا فألجُ السطوحَ والأعماق معاً. أيتها الأرض! يبدو أنك تبحثين عن شيء في يدي، قولي، أيتها البربرية، ما الذي تريدينه؟ أيها الرجل، أيتها المرأة، يمكنني أن أقولَ كيف أحبكم، لكنني لا أستطيع، ويمكنني أن أبوحَ بسرّي وما تخفون، لكنني لا أستطيع، ويمكنني أن أحكي عن ذاك الشوق الذي يعتملُ فيّ، وعن ذاك الخفقان المسموع في لياليّ ونهاراتي. انتبهوا، إني لا أعطي محاضرةً، أو صدقةً قليلة، حين أعطي، فإنما أُعطي نفسي. أنتَ، أيها العاجز جنسياً، ركبتاك منهكتان، افتح لي أضلاعكَ المضمّدة لأنفخَ فيها الجسارة، ابسط راحتيك، وارفع حواشي جيوبكَ، فأنا لا يُردّ لي طلبٌ، بل إني آمُرُكَ، لدي مخازن عامرة، احتياطية، وكلّ ما أملك، أهبُهُ. أنا لا أسألُ من أنتَ، فهذا لا يهمّني، يمكنك أن لا تفعل شيئاً، وأن تكون لاشيء، ولكن كلّ شيء أقومُ به، يشملكَ. على كتف كادح القطن أو منظف المراحيض أتكئ، وأطبعُ قبلةً عائليةً على خدّه الأيمن، حالفاً، في روحي، أن لا أصدّه أبداً. لنساء مهيآت للإخصاب، أكوّنُ أطفالاً أقوى وأكثر رشاقة، (هذا اليوم أفيضُ بسائلٍ يؤسّس لجمهورياتٍ أكثر صلفاً.) إلى كلّ مُحتَضِر، أهرعُ وأديرُ قبضةَ الباب، أسحبُ أغطيةَ الفراش إلى أسفل السرير و أسمحُ للطبيب والكاهن بالمغادرة. أتلقّفُ الرجل السّاقط وأرفعه بإرادة لا تُقاوم، أنتَ، أيها اليائس، خذ رقَبَتي، أقسمُ أنكَ لن تهوي! فلتضع كلّ ثقلك عليّ. أهدهدكَ بأنفاسٍ عظيمة، وأرفعكَ وتطفو، أملأُ كل غرفةٍ من البيت بقوة مسلّحة، أملؤها بعشّاقي، قاهري القبور. نَم- أنا وهم حرّاسكَ طوال الليل- لا الريبة، لا الموت، يجرؤ على وضع إصبعه عليك، عانقتكَ، فامتلكتكَ جزءاً من نفسي، وعندما تستيقظ في الصباح، ستجد أن ما أقوله لك صحيح.
Song of Myself, Section 40 —poem read by Nadia Fayidh
خاتمة
ما يبقى دون يقال يظل يلهم الخيال الانساني كما تقول القوانين الشعرية. يكتب ويتمان في هذا المقطع "يا رجل و يا امرأة\ قد اقول ما في و ما فيكم، لكني لا استطيع" ثم يقول "وقد اقول عن ذلك النبض الذي يملأ ليالي و نهاراتي". ما هذا؟ الشعراء دائما ينشغلون بعملية البحث عن الكلمات من اجل وصف القوة التي تبعث الحياة في دواخل الرجال و النساء. مذهل صمت ويتمان امام لغز الرغبة: منتبها ان لحدود اللغة و بالتالي يقترح بأن المعنى الحقيقي لكلماته و ما يقوله بين السطور في المجال الابيض سوف يصبح واضحا فقط في المستقبل عندما رؤيته الديمقراطية المستوعبة للجميع قد ترجمت للعديد من اللغات.
في تلك الاثناء يحتض الشاعر كادحي مزارع القطن و منظفي المراحيض و يحمل الاطفال الملائمين "الجمهوريات" المتكبرة و يوقظ الموتى و يحرس رجلا واحدا طوال الليل. و تنضم اليه ارواح عشاقه، "محيري القبور" الذين يقنطون في المنزل، مثل الميليشيا. (ما من احد يترك دون حماية في خطة ويتمان للعالم.) و عندما ينهض الرجل في الصباح من فراش الموت يخبره الشاعر الحقيقة التي لا يستطيع القارئ سماعها.
في الغابات قرب المحمية في عصرية صيف معتدل، وجدت اوراق الشتاء تسقط و الاشجار اسقطتها عواصف الربيع و شجيرات الازهار متفتحة على طول الطريق الى الجسر. يعجبني الظلال حيث تصلني الاصوات من الزوارق التي لا اراها التي تركت الشاطئ لتوها. تتوجه افكاري بعيدا عن تعقيدات العمل و تسافر الى اماكن اخرى و الان اعرف ان الرغبة و النبض لها هما ما يشكلان حياتي و كتاباتي. هنري ميلر يسمي ويتمان هذا "الكاتب الهيروغليفي الفظ" و التي اعتقد انها تعني الكاتب الذي يمنح اشارات ما هو قديم جدا في اجسادنا و ارواحنا—و الذي يقع وراء مجالات الرؤية. هناك صوت ينادي من الماء و صوت اخر يضحك و تتصاعد الضحكات من بعيد.
—CM
سؤال
في بعض الاحيان يلجأ ويتمان الى الملاحم الشعبية القديمة و القصص الخرافية التي لا تصدق من اجل خلق معنى قوي لضمير الانا المتكلم. في الادب الامريكي هناك ديفي كروكيت وهو احد ابطال ثورة تكساس و رجل عرف انه "ملك الحدود البرية" و هو يملك الكثير من القصص الخرافية عن مغامراته. احد الاساطير التي تخصه ترتبط بهذا المقطع من "اغنية نفسي": "في صباح احد ايام كانون الثاني، كان يوما باردا جدا لدرجة ان اشجار الغابات كانت متصلبة و لا تهتز ابدا و الفجر جاء منجمدا يحاول كسر الظلام بصعوبة.....و بعد ان مشيت عشرين ميل حتى قمة اودي و ديبريك هيل سرعان ما اكتشفت الحقيقة. الارض انجمدت على محورها بسرعة لدرجة انها لا تستطيع ان تتحرك؛ فالشمس انحصرت بين كعتين من الجليد تحت العجلات بينما كانت تحاول الاشراق و تتحرر لكن انجمدت بسرعة. يا الخليقة!!! لقد كان هذا اسوأ مأزق و لا يمكن تحمله. و يجب فعل شيء ما او انها ستكون نهاية البشرية.... انزلت من على ظهري حمولة عشرين باوند و التي اخذتها خلال رحلتي و قمت بضرب حيوان من اجل ان يخرج من جسمه الزيت الحار الذي بدأ ينتشر في كل الجوانب. عندها حملته على محور الارض و عصرته ثم رميته نحو الشمس حتى احررها—وصفرت لها "هيا تحركي"! و خلال خمسة عشر ثانية تجشأت الارض وبدأت بالحراك. و استيقظت الشمس تحييني بريح من الامتنان جعلتني اعطس. اشعلت غليوني من قمته الساخنة و حملت مرة اخرى حمولتي و رجعت للمنزل مقدما للناس ضوء النهار بقطعه من الشمس في جيبي."
في هذه القصة الخرافية، نرى ان كروكيت يلامس الشمس و يأخذ الشعلة من قمة الشمس كما لو كانت لها راس. و يبدو هنا ان ويتمان ايضا يلامس الشمس في الابيات الاولى و يتفاعل مع الارض. ما هو تأثير تضمين عناصر القصة الخرافية على شعر ويتمان؟ هل هذا المقطع كوميدي في تظاهره بالشجاعة و مبالغته بامتلاك القوة؟ ام ان العناصر الكوميدية تساعد في استمرار جدية ادعاء الشاعر بامتلاكه قوة نفاذة؟