توطئة
الان بعد ان بعث الشاعر من جديد و استعاد حيويته بالكامل يقدم لنا ويتمان شخصية غامضة جديدة "البدائي الصديق المنهمر". هذه الهوية الامريكية الجديدة مرتبطة بالبرية (كلمة بدائي مأخوذة من الجذور التي تعني غابة او براري) و يبدو انها ستكون نتيجة اختلاط الأمريكيين الرواد و الهنود الحمر (هنا يمكن ان نتذكر زواج البهلوان بالفتاة الهندية في المقطع 11). ان الهوية التي يحتفل بها ويتمان موجودة هنا في ذلك المجال الثقافي بين ما يسميه المؤرخ فردريك جاكسون تيرنر "البدائية و الحضارة" حيث ان الاعتماد على النفس و الهوية الامريكية الخشنة كانت قد تشكلت من خلال الحدود. هذا "المتوحش" الجديد "يتدفق" لان هويته يجب ان تبقى هائمة مستجيبة للتغيرات التي تنتهي في البيئة و الظروف المتغيرة. من خلال وجوده في الحدود المتغيرة—تلك الحدود التي تتغير بين الحضارة التي بدأت بالظهور و البرية التي بدأت بالاختفاء—"المتوحش" الجديد هذا على الدوام ينتظر من الحضارة ان تلحق به من الشرق لكن ايضا يجتاز الحضارة و تملكها، لأنه اكثر حرية و اكثر استقلال و لا يذعن للقانون بتصرفاته، اقل لباقة بكلامه و اسرع بجسده من امثاله "المتحضرين" في الشرق. بعد ان ترك الحضارة للانغماس في البرية، فلقد ابقى جوانب تربيته الحضرية بينما تبنى الاساليب العملية الضرورية لحياة البراري. فهو يتدفق الى هوية اكثر "وحشية" و يبني علاقاته الاجتماعية على مبدأ الصداقة وليس القانون.
وجدت الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر من خلال دفع خط الحدود من الشرق الى الغرب في مجراه نحو المحيط الهادي. في ذلك الوقت هناك كلمتين تستخدم لوصف البرية التي تمتد عليها امريكا—"الحدود" و "الغابات الخلفية". كلمة الحدود تعني ان البلاد تواجه الغرب و ان حدود البلاد هي الحدود الغربية وتنظر للبرية كمصدر الهام للمستقبل، بينما مصطلح "الغابات الخلفية" يوحي بأن الامة تواجه الشرق و هي تعود من الغرب البري، وهي تنظر نحو أوربا و حضارتها كنموذج لما يمكن ان تصبح عليه الامة الجديدة. كان ويتمان يؤمن بأن مستقبل امريكا في الغرب و هنا يضمن في شخصية واحدة العديد من الرواد الشجعان الذين قاموا بالخطوة الاولى في تحويل البرية الى حضارة. وبالتالي فأته يستذكر جميع الاماكن التي كانت نشطة و حيوية من كندا الى اوريغون الى أيوا الى مسيسيبي. ويتمان يأمل بأن خبرة امريكا في الحدود سوف ينتج عنه حضارة مختلفة جدا عن الحضارات الاوربية التي تركتها خلفها و المتوحش الودود المتدفق يصبح هو النموذج العام للأمريكي الجديد و الذي يتصرف و يتحدث و يعشق بكل عفوية دون تصنع دون مراتب و اكثر سهولة مع جسده من الحضارات السابقة، تماما مثل الشاعر نفسه. "المتوحش الصديق المتدفق" عندها سوف يستخدم يديه العاريتين لخلق حضارة جديدة و اساليب تصرفات جديدة و حريات جديدة للمجتمع الديمقراطي. اينما يذهب تظهر الديمقراطية الجديدة في خطاه.
—EF
مقطع 39هذا المتوحش ، الأنيس ، المتدفَق ، من يكون ؟ أهو ينتظر المدينة ، أم أنه قد تجاوزها وتملّكها ؟ أهو جنوبيٌ غربي ، ترعرع في البرّية ؟ أهو كنديّ ؟ أهو من بلاد المسسپي ؟ أيوا ، أوريغون ، كاليفورنيا ؟ الجبال ؟ حياة البراري ؟ حياة الغابات ؟ أم هو من البحر بحّار ؟ أنّى ذهب ، رحّبت به الرجال والنساء وأحبّتهُ أحبّت أن يحبها ، أن يلمسها ، أن يتحدث اليها ، ويظل معها . تصرُّفٌ بلا قانون - مثل نثير الثلج … كلمات بسيطة كالعشب شَعرٌ غير مَشيط ، ضحكة ، وسذاجة أقجام خفيضة الخَطو سيماء عاديّة خصالٌ عاديّة ، وانبثاقات إنها تنحدر في أشكال عديدة من أنامله إنها ممتزجة برائحة جسده وأنفاسه إنها تحلّق مع نظرة عينيه .
ذاكَ البربري الأنيس، المنساب، من يكون؟ هل ينتظر الحضارةَ، أم أنه تجاوزها، وتسيّدها؟ أهو جنوبيٌ- غربيٌ ترعرع في العراء؟ أهو كندي؟ أهو من منطقة المسيسيبي؟ أهو من أيوا، من أورغون، من كاليفورنيا؟ أهو من الجبال؟ هل عاش حياةَ البراري، حياةَ الأدغال؟ أم هو بحّارٌ جاء من البحر؟ أنّى يذهبُ، ترحّبُ به النساءُ والرجالُ ويشتهونه، يشتهون أن يحبهم، يلمسَهم، يتحدّثَ إليهم، ويمكثَ معهم. سلوكٌ حرّ كندف الثلج، كلمات بسيطة كالعشب، شعر غير مسّرح، ضحك، وبراءة، أقدام بطيئة الخطوات، ملامح مألوفة، حركات مألوفة، وتعابير مألوفة، صفاتٌ تنحدرُ، جديدةً، من رؤوس أصابعه، تمتزجُ برائحة جسده أو أنفاسه، وتطيرُ خلل نظرةٍ من عينيه.
Song of Myself, Section 39 —poem read by Nadia Fayidh
خاتمة
اول سؤال يطرح في هذا المقطع—"هذا المتوحش، الانيس، المتدفق، من يكون؟"—كان قد اتعب الامريكيين منذ وصول المستعمرين الانكليز في فرجينيا وماساتشوستس في بداية القرن السابع عشر. جذر كلمة متوحش هو "الغابات" و السكان الاصليين الذين يسكنون الغابات في العالم الجديد يقفون امام المستعمرين المتحضرين الذين اخذوا الاراضي باسم المسيحية من اجل بناء مدينة جديدة. الاجابة عن هذا السؤال يقدمه رجل الدين البوريتان روجر ويليامز في كتاب اللغات الامريكية ويقول بان جيرانه من قبيلة ناراغانسيت لم يكن يختلف عن المستعمرين الذين لم يكونوا يشاركونه معتقداته، عند نفيه الى البراري في رود ايلاند حيث استمر في التزامه بحرية الضمير الى ان اصبح النموذج للرجل الجديد الذي يمتدحه ويتمان في "اغنية نفسي": الشخص الذي يضم روح المغامرة و صراحة التعبير و موهبة جذب الاخرين لقضيته—الرجل الديمقراطي. فهو رجل اكبر من الحياة ذاتها من اجل كل من يعيش على هذه القارة، بيض و سود و حمر و صفر، ويعبر بعدة طرق كيف نرتبط ببعضنا.
كيف لنا ان نميزه؟ يقول ويليامز بأن "العرق الانساني كله مصاب بتلك الرغبة الملحة لسماع الاخبار". و ليس من الصدفة بأن الامريكي الاول يشكل الاخبار التي تبقى اخبار، كما يقول الشاعر ازرا باوند في تعريفه للشعر، حيث يسمي الشاعر رجل اخبار. جمع ويتمان التقارير من الحدود الغربية من الرحلات البحرية و ترحاله في المدن من العلوم و الفنون و حولها الى شيء يستمر—"انبثاقات... انها تنحدر في اشكال عديدة من انامله". فأبياته الشعرية الطويلة ، التي جاءت من الاخبار و التأملات و الرغبات التي يسجلها في دفتر ملاحظاته، تمتلك جمالا بريا اخاذا و التي تعزز ايمان ثورو بأنه "في البرية يمكن الاحتفاظ بالعالم". و ليس من المفاجئ ان كلمات ثورو الاخيرة قد اشارت الى القلب الامريكي الاصلي: الهنود الحمر و البيض. ومثل ويتمان عرف بأن الامل الوحيد لهذه الامة (توفي ثورو في 1862 خلال اكثر السنوات ظلمة في تاريخ الحرب الاهلية) يكمن في البرية خلف العالم الذي نعرفه.
—CM
سؤال
في هذا المقطع يتخيل ويتمان نوعا جديدا من المتوحش الامريكي الذي يستخدم سلوكيات بدائية و طبيعية و بالتالي يعطي طاقة جديدة للثقافة الامريكية من خلال التخلي عن الاشكال المتحضرة للسلوكيات. هل جميع الحضارات قد تغيرت بسبب الحياة على حافة حدودها؟ هل لدى كل البلدان مناطق تتقارن مع مناطق اكثر بدائ
ية و وحشية بعيدة عن المركز المتحضر؟ هل التوترات بين الاجزاء المتحضرة و البرية في الثقافة يمكن ان يكون منتجا؟ هي هذه التوترات تعمل على تغيير طبيعة الهوية الوطنية؟