توطئة
و نحن نبدأ الخمس الاخير للقصيدة، يدعونا ويتمان بصوته الى الذروة مثل مغني الاوبرا الذي يعد مطربيه للمقطع الاخير. انها "صيحة في الجمع" صوت ابتدأ من بين "الناس من حولي". ويتمان دائما يهتم بالمشكلة الديمقراطية للفرد و المجتمع، الواحد و العديد، ما قد سماه "الفرد البسيط المستقل" و "الجماعة". ان سر النجاح الديمقراطي هو في التفاوض حول ما يجب التأكيد عليه بين حقوق الفرد و حقوق الجميع و هذا التفاوض مرتبط بمسألة حفاظنا على هويتنا المنفردة المستقلة عندما نتعاطف مع الجميع. و هذا هو السبب الذي من اجله ويتمان دائما يؤكد على الذات المتجسدة في "الانا" التي تستطيع ان تكون كل شخص اخر في الحضارة المنشودة و التي تستطيع من ترة ضمن الفرد تنوع الهويات الموجودة في الامة. يقول لنا ويتمان ان كل واحد منا هو "ولايات متحدة"، هوية تتشكل من مختلف الهويات الاخرى و الاصوات غير المتجانسة و مختلف الامزجة النفسية و الافكار المتعارضة. و هكذا يتخيل الشاعر صوته يرتفع فوق هذه الجوقة من الاصوات لكن ايضا متناسقا معها، متحدثا الى وعن "الحشود" التي تحيط به و تساعده في تعريف ذاته: فهو لا يتحدث فقط عن من يعرفهم بل ايضا يتحدث عن الذين هم غرباء عنه (العديد من الناس حتى لو يكونوا من المقربين اليه).
و يخلق ويتمان هنا من خلال تكراره لكلمة "ابدا" احساسا بالتكرار و التغيير المتكرر الحصول الذي لاحظه و احتفل به في كل القصيدة: الحياة تمضي و تستمر، الناس تولد و تموت و مع ذلك يبقى نفس الاكلين و الشاربين و نفس الاسئلة التي ليس لها جواب و التي تطرحها اجيال بعد اخرى و لا ترد عليها ابدا، و نفس الرغبات ("ابدا هي انفاس الاذى و الظمأ")، نفس الشر و نفس الخير و نفس الحب و نفس الموت: انه "ماء الحياة المنتحب"، متحركا مثل النهر الذي يختلف يوميا عن اليوم الذي يسبقه (المياه قد تغيرت تماما) و مع ذلك يبقى النهر ذاته. يقول الشاعر، "رأسي على عنقي يدور" ليصور لنا المنظور المتحول و المتغير بشكل دائم للقصيدة، ابياتها مثل عيون واذان تغير بشكل مستمر نقطة تركيزها و اتجاهها.
ومن خلال تذكيرنا بأن "اغنية نفسي" هي بالأصل اغنية حضرية عن المدينة، فأن ويتمان يعطينا ابياتا كاملة حول كونه فردا منفردا بين الكثيرين: "ها هي ذي المدينة \ و انا احد مواطنيها" و التي انطباعاتها و اهتماماتها تتقاطع و تتداخل، لتخلق واحدا ديمقراطيا. و هكذا يعطينا الشاعر اقوى احتجاجاته ضد التوزيع غير المتساوي للثروة في المجتمع (في زمنه و خاصة السنوات التي تلت الحرب الاهلية والتي تخلق تناقض الثروة التي تشبه ما يحصل اليوم في فترة يفضل فيها الاقتصاد و السياسات الاجتماعية اسواق البورصة و الاغنياء فقط). هجومه هذا ليس ضد الظلم الاقتصادي بل الاثار السلبية لحب المال على الجميع (الاغنياء و الفقراء) و هم يرون الاسعار و قيم العملات. يعطينا ويتمان مشهدا اشبه بيقظة الموتى وهم يمشون في المدينة و صورة العملات النقدية في عيونهم (العملات وضعت على عيون الموتى حتى تبقي عيونهم مغلقة لكن هؤلاء الموتى السائرين يبدو انهم فعلا يملكون نقودا يرون من خلالها بدل العيون). يخلق الهوس بالمال موتا في الحياة و يخلق القليل من الاغنياء من الذين يغذون طمعهم من خلال "اطفاء" ادمغتهم، و الذين يطالبون بأكثر مما يستخدمون على حساب العديدين من الذين يعملون بكد لكن لا يحصلون الا على القليل و حياتهم تنقلب الى روتين قاتل. لكن يبقى الشاعر يرى نفسه في هؤلاء "المانيكان الصغيرة". كتب ويتمان في ملاحظاته الاولى عن "اغنية نفسي " بأنه سيكون "شاعر الاسياد و اسياد العبيد"، و هكذا سيكون شاعر الاغنياء و الفقراء محاولا فتح جميع العيون للجنون في تدرج السلطة غير العادل مثل العبد و السيد، الغني و الفقير. الاغنياء و الفقراء و الاسياد و العبيد جميعهم لديهم اجساد؛ جميعهم لديهم رغبات؛ و جميعهم يعيشون حياتهم و ابيات الشاعر التي ستجلب الكل ضمن نطاق رؤيته.
ينهي ويتمان هذا المقطع المذهل باستعراض للأشكال الخارجية—الكتب و الصور و السفن و الاحصنة—و يذكرنا بقوة بأن جميعها اشكال خارجية لأناس احياء يتنفسون ولهم اجساد. نميل الى التركيز على الاشياء و المنتجات بدلا من الاجساد الحية التي انتجتها. و يذكرنا الشاعر بالطريقة التي يشير بها كل منتج الى الحياة و العامل الذي انتجها. غالبا ما نركز على الاشارات و الاشياء و ما يشابهها لكن ليس على الحياة التي تعطينا الاشارات و معانيها. ننظر فوق و بعيدا—الى السماء، الى الماضي ("القديسين و الحكماء في التاريخ القديم") الى ما هو مجرد ("الخطب و العقائد و اللاهوت")—في الوقت الذي يكون علينا ان ننظر الى الاسفل الى ما هو حقيقي و واقعي. يعدنا بأن قصيدته هي ليست من اجل ان نصبح شيئا جميلا، لكن من اجل جلب ما يدور خلف الكلمات (الشاعر المجسد) و ما يجلس فوق الكلمات (القارئ) و خلق احساسا ساحرا للأجساد التي تتدفق مع بعضها: الشاعر و "انت مهما كنت".
—EF
صيحةٌ في الجمعْ … إنه صوتي ، جهورياً ، مندفعاً ، وباتّاً تعالوا ياأولادي وبناتي ، ونسائي ، وأهل بيتي ، وخلصائي إن العازف يتقدّم الآن ، بعد أن أتمّ تمهيداته ، في الداخل هاهي ذي الأوتار المستجيبة ذات الأصابع الحرة انني أحس عليها نبركم العالي ، وصمتكم رأسي على عنقي يدور والموسيقى تدور ، لكن ليس من الأرغن الناس حولي ، لكنهم ليسوا أهل بيتي . أبداً هي الأرض الصلدة أبداً هم الطاعمون والشاربون أبداً هي الشمس الطالعة والشمس الغاربة أبداً هو الهواء ، والمد المستمر أبداً هي نفسي وأبداً هم جيراني ، فرحين ، أشراراً ، حقيقيين أبداً هو السؤال الذي لايُشرَح أبداً هو الإبهام الذي يتلقّى الوخز وأبداً هي أنفاس الأذى والظمأ وأبداً هو توقُّعُ السيئ … ها … ها … حتى نجد مختَبَأ الكائد أبداً هو الحب ، وماء الحياة المنتحب أبداً هو الضماد على الذقن ، وأبداً هي مَسَاندُ الموتى . هنا ، وهناك ، يسيرون ، والدولار الفضة على أحداقهم ليطفئوا جشع المعدة ، أما الأدمغة فلها مالها إنهم يبتاعون التذاكر ، يأخذون ، ويبيعون ، لكنهم لايذهبون - ولو مرةً الى العيد كثيرون ، يتصبّبون عرقاً ، يحرثون ويدفعون المراكب - ثمّ يمزحون حين يتسلمون الأجر … وقليلون ، يملكون مستريحين ، ثمّ يطالبون بالغلال . هاهي ذي المدينة وأنا أحد مواطنيها لي جواذب الاخرين : السياسة / الحروب/ الصحف/ المدارس/ ورئيس البلدية/ والمجالس/ والمصارف/ والأسعار/ والسفن التجارية/ والمصانع/ والبضائع/ والمخازن/ والأملاك . فتيات المانيكان الصغيرات يبحرن ، دائرات ، بياقاتهن ، ومعاطفهن الطويلة إنني أعرفهنّ (لسن ديداناً أو براغيث ، طبعاً) إنني أحترم طبعات نفسي فالضعيف والضحل خالدان فيّ . وماأقول وأفعل ، ينتظرهما أن يقولاه ويفعلاه وكل فكرةٍ تولد فيّ ، تولد فيهما أعلمُ حقَّ العلم أنانيّتي أعرف أشعاري النهمة ، فلن أكتب أقلّ منها وسوف تلتقيك ، كائناً من تكون مليئةً بنفسي . أغنيتي هذه ، ليست أغنية مكرورة إنها الأغنية التي تتساءل وتتوثّب لتأتي بهذا الكتاب ، مطبوعاً مجلّداً … لكنْ . ماذا عن الطبّاع ، وصبيّ الطبّاع ؟ ثمة الصور الفوتوغرافية الجيدة … لكن ماذا عن زوجتك أو صديقك … بين ذراعيك لصيقين ؟ السفينة السوداء مزردة بالحديد … مدافعها الجبارة في أبراجها لكن ماذا عن جسارة القبطان والمهندسين ؟ في المنازل : الأطباق ، والطعام ، والأثاث … كلن ماذا عن المضيف ، والمضيفة ، ونظرات عيونهما ؟ السماء ثمة … لكن ، أهي هنا ، أم عند الباب الآخر ، أو عبر الطريق ؟ قدّيسو التاريخ وحكماؤة … لكن ، ماذا عنك ، أنت ؟ الطقوس ، والأطماع ، والالهيات … لكن ماذا عن الدماغ البشري الذي لايُسبَر ؟ ترى ، ما العقل ؟ ما الحب ؟ ما الحياة ؟
صيحةٌ في عمق الزّحام، إنه صوتي، جهورياً، كاسحاً، ونهائياً. تعالوا يا أطفالي، تعالوا يا صِبيتي، وبناتي، ونسائي، الرفاق منكم والعشّاق، الآن يُطلق المغنّي جسارتَه، عازفاً افتتاحيتَه على أوتارِ نفسه. أوتارٌ يسهل العزف عليها بأصابع حرّة- إنّي أشعرُ ترنيمَها، في علوّه وانخفاضِه. رأسي يدور حول رقبتي، والموسيقى تصدحُ، ولكن ليس من الأرغن، أهلٌ يتجمهرون حولي، لكنهم ليسوا أهلَ بيتي. أبداً هي الأرض الصلبة التي لا تغرق، أبداً هم الآكلون والشاربون، أبداً هي الشمس الغاربة أو الطالعة، أبداً هو الهواء، وحركات المدّ التي لا تنتهي، أبداً هي نفسي، هم جيراني، متجدّدين، أشراراً، حقيقيين، أبداً هو الاستجواب القديم الغامض، أبداً هي الأصابع المغروزة بالشوك، أبداً هي الأنفاس التي تنفث ألماً وعطشاً، أبداً هي صيحات الازدراء حتى نعثر على مكمن العابث ونحضره موجوداً، أبداً هو الحب، أبداً هو النسغ الباكي للحياة، أبداً هي العُصابة تحت الذقن، أبداً هي مصاطب الموت. هنا وهناك يسيرون، حيث العيونُ قطعٌ نقدية تلمعُ، يشبعون جشعَ البطون، فيما عقولهم تتسكّع حرّةً، يأخذون، يشترون ويبيعون البطاقات، لكن لا أحد يذهب، ولو مرةً، إلى الاحتفال، الأغلبيةُ يتصببون عرقاً، يكدحون ويشقون، لكنهم لا يحصلون سوى على القشّ كأجرٍ لهم، قلةٌ قليلة تملكُ، ولا تعملُ، لكنها تستفردُ دائماً بالغلال. هذه هي المدينة، وأنا أحد مواطنيها، وكلّ ما يهمّ غيري يهمّني: السياسة، الحروب، الأسواق، الصحف، المدارس، رئيس البلدة، المجالس، البنوك، الضرائب، السفن البخارية، المصانع، البضائع، المخازن، العقارات الشخصية والعامّة. تماثيل المانيكين الفتية، المزهوّة بمعاطفها الطّويلة وياقاتها المرفوعة، أعرف ماهيتَها (هي ليست بالتأكيد براغيث أو ديدان) وأعرف نظائرَ ذاتي، فالأضعف والأكثر سطحية خالدٌ بالنسبة لي، ما أقوله وأفعله ينتظرهم جميعاً مثلي، وكل فكرةٍ تخطرُ لي تخطرُ لهم. أعرف معرفةً أكيدة أنانيتي، أعرف أبياتي النهمة، ويجب أن لا أكتب أقل منها، وسوف أستحضركَ، أنتَ، كائناً من تكون، صنواً لنفسي. أغنيتي هذه ليست كلمات روتينية، إنها تباغتك بالسؤال، وتقفز فيما وراء التخوم، مع ذلك تقتربُ منك. هو ذا الكتاب المطبوع والمغلّف، ولكن ماذا عن آلة الطباعة، وصبي آلة الطباعة؟ هي ذي الصور الفوتوغرافية المتلقطة بمهارة، ولكن ماذا عن زوجتك أو صديقك، وهما ينامان بين ذراعيك؟ هي ذي السفينة السوداء المصفّحة بالحديد، حيث مدافعها العملاقة فوق أبراجها، ولكن ماذا عن شجاعة القبطان والمهندسين؟ في المنازل، ثمة الأطباق والأطعمة والأثاث، ولكن ماذا عن المضيف والمضيفة، وتلك النظرات المنطلقة من عيونهما؟ السماء في الأعلى، ولكن ماذا عن هنا، أو ما هو قريب من هنا، أو ما هو في الجهة المقابلة من الطريق؟ القديسون والحكماء في التاريخ، ولكن ماذا عنك أنتَ نفسكَ؟ الصلوات، العقائد، واللاهوت-، ولكن ماذا عن العقل الإنساني الذي لا يُسبَرُ غوره؟ وما العقل؟ ما الحبّ؟ وما الحياة؟
Song of Myself, Section 42 —poem read by Nadia Fayidh
خاتمة
تعبر القصيدة عن الكثير من الاسئلة التي تحير ذهن القارئ: عن معنى الحياة و طبيعة الحب و طبيعة الحياة القادمة. "اغنيتي هذه ليست اغنية مكررة" كما يقول ويتمان في هذا المقطع، "انها الاغنية التي تتساءل و تتوثب". يدعونا الشاعر الى التساؤل عما يكمن في قلب الكتاب و الصورة او داخل السفينة؛ ما يجده هو اناس دوافعهم و رغباتهم و انتفاضاتهم وامتعاضاهم و شجاعتهم ومخاوفهم كافية لان توقد نيران أي مغامرة. لن يكون له ابدا ذلك البرج العاجي الذي لطاما كان مسكن الشعراء. فهو ينظر الى كل الاشياء و كل الأشياء تثير اهتمامه: "السياسة\ الحروب\ الصحف\المدارس\و رئيس البلدية\ والمجالس\و المصارف\و الاسعار\و السفن التجارية\ و المصانع\و البضائع\و المخازن و الاملاك". ويقوم بالبحث في الآراء التي يتلاقاها و يظل يفكر في أي شيء تقع عليه عيناه حتى يمكنه ترجمتها الى لغة تعبر عن اعماق العقل البشري. في ايامه الاخيرة، اخبر ويتمان معجبيه بأن القصد من أوارق العشب هو "ان استوعب و افكر و امتلك أي شيء من كل شيء، ليس هناك من شيء صغير جدا لا يمكن استيعابه—ليس هناك من علم او ملاحظة او تفاصيل—في الغرب و الشرق و في المدن و في الخربات و الجيش و الحرب(في كل الاماكن التي عشتها)—و بعدها سوف يأتي كل شيء حسب الميل الشخصي". و ها هو ذا صوته يدعونا من بين الجماهير ليقطع علينا روتين حياتنا اليومية و وجودنا و يتحدانا لان نرى ما هو قريب و بعيد، ما هو في متناول اليد وما هو مخفي عن انظارنا و يحتفل بإنجازاتنا و حتى تشتتنا. فهو يغني عن محاولاتنا في ايجاد معنى للحياة التي نحياها و يغني عن رفضنا لتولي مسؤولية ما يحصل لنا؛ عن مثابرتنا و فشلنا، وعن البحر و السماء. لماذا نحن هنا؟ هذا هو السؤال الجيد.
—CM
سؤال
فكر في أي منتج قمت بشرائه في الاسابيع القليلة الماضية و حاول كتابة ما يمكن ان تكون عليه حياة—الاجساد الحية—لأولئك الاشخاص التي انتجتها. أي طريق سوف تسلكه نقودك بعد ان سلمتها للمحاسب؟ ما هي الحياة التي ساعدتها او ساعدت في تدميرها؟