توطئة
في هذا المقطع القصير يستمر ويتمان بعملية الانكماش و الانحسار في القصيدة بعد القائمة الاستعراضية الطويلة التي قدمها قبل مقطعين. يقدم لنا الان تصريحا بسيطا و مباشرا: كل شيء قاله في القصيدة حتى هذه النقطة لم يكن "في الاصيل افكاري" بل كانت "افكار الناس من مختلف العصور و البلدان". الشيء الاصيل معه هو النطق بهذه الافكار البسيطة: فجميعنا فكر بهذه الافكار لكن فقط الشاعر عبر عنها. هذه هي طبيعة الشعر—التي تجعلنا ندرك فجأة شيئا قد عرفناه مسبقا لكن فقط الان تمكنا من ان ندركه ضمن سياق اللغة. ويمضي ويتمان في اصراره بأنه اذا ارادت "اغنية نفسي" ان تنجح، فأن عليها ان تدخل اذهاننا بالكامل، ونقرأها كما لو كنا نفكر بنفس الافكار التي يعبر عنها الشاعر. ان السحر الذي يكمن في أي قصيدة قوية هي عندما تتبخر المسافة بين القارئ و المؤلف: ذلك الشاعر والت ويتمان الذي كتب هذه القصيدة قد يبعد عنا 150 عام و قد نكون نقرأه وهو يبعد عنا الاف الاميال –لكن من خلال عملية القراءة—تبدو هذه الافكار "ان لم تك لك، كما هي فليست بشيء". جميعنا نسكن اجسامنا ونشكل عقولنا، و جسد و عقل الشاعر بالرغم من كونهما قد رحلا من تكوينهما المادي، يظلان يعيشان في الكلمات التي يضعها الشاعر على الورق و تتشبع عقولنا من خلال الحواس التي توصل بين العقول. بدون مثل هذا الترابط هناك كلمات ميتة مجرد حبر على ورق؛ مع الترابط الفكري تصل الاشياء للأذهان.
السطران الاخيران من هذا المقطع يستمران في تقديم الرد من جانب ويتمان على سؤال الطفل الذي بدأ به في المقطع السادس: ما هو العشب؟ هنا العشب هو ما ينمو في كل مكان و بشكل متساوي مثل "الهواء المشترك الذي يغسل العالم". يهمس لنا الشاعر لان نتنفس هذه الافكار و هذه الصور الشعرية؛ فهم خبراتنا كما هي خبراته. هي العشب و هي الهواء.
—EF
حقاً، هاهي ذي أفکار الناس من مختلف العصور و البلدان. إنها لیست، فی الأصیل ، أفکاري و هي، إن لم تک لک ، کما هی فلیست بشيء. إن لم تک اللغز، و حل اللغز، فلیست بشيء هاهو ذا الشعب الذي یَنجمُ حیث الأرض و الماء هاهو ذا الهواء المشترک الذي یغسل العالم.
هذه حقاً أفكار الناس جميعاً في كل الأزمنة والأمكنة، وهي لم تولد معي في الأصل، فإذا لم تكن لك كما هي لي، فهي لاشيء، أو ما يقاربُ اللا شيء، وإذا لم تكن اللغز وحلّ اللغز فهي لا شيء، وإذا لم تكن قريبة تماماً مثلما هي بعيدة فهي لا شيء. هذا هو العشب الذي ينمو حيث تكون أرضٌ ويكون ماءٌ، وهذا هو الهواءُ المشَاعُ الذي يغسلُ المعمورةَ.
Song of Myself, Section 17 —poem read by Nadia Fayidh
خاتمة
قيل عن الانبياء في سفر العهد القديم بأنهم أداوت الله، افراد يخشون الله و الذين سجلوا اوامرا و حكما وصلتهم من العلى؛ في هذا المقطع القصير يجمع عمله سوية مع موروث الحكمة الذي تحتويه الحضارة الغربية معلنا عن نفسه وسيطا "لأفكار كل الناس\من مختلف العصور و البلدان". ليس هناك شيء اصيل في هذه القصيدة، كما يؤكد لنا، سوى انه جعل من نفسه متوفرا "للغز وحل اللغز" الوجودي—أي بمعنى ان يكون متلقيا من جانب العشب عند قدميه و "الهواء المشترك الذي يغسل العالم" رسائل عن مكاننا الصحيح في الكون. اذا كان كتاب الشاعر الانكليزي وردزورث "برليود" يبتدأ بمقترح يقول بأن أي تصور عن نضج ذهن الشاعر سوف ينتج عنه تصور كوني، فأن ويتمان يأخذ رايا معارضا: ما يجده في كل مكان يمكن ان يجده كل قارئ و كل فرد—ويعتمد هذا على علاقة الشاعر الفعالة مع النص: القارئ هو صديقه المكتشف، الان وفي العصور القادمة.
كتب ويتمان في مقدمته لديوان اوراق العشب 1855 "الدليل عن وجود الشاعر هو ان بلاده تستوعبه بكل العطف كما قد استوعبها هو". تأسفه في السنوات الاخيرة من حياته على ان مواطنيه لم يقدروا فعلا استعراضاته الشعرية و لا دعواته لان يكونوا افضل مما هم عليه لم يعكس فقط الغرور (بالرغم من الغرور لعب دورا مهما) لكن ايضا عكس حقيقة اخرى: ما من نبي يكون مقبولا في بلاده" كما قال السيد المسيح—و السياقات غير الواضحة للفن الشعري و تنبؤات ويتمان عقدت ادراكه للأشياء. كان يريد تحقيق كل الاشياء. لكن نوع القراء الذين اراد الحصول عليهم كانوا موجودين في المستقبل كما سيظلون كذلك و الان حيث يجد بعض القراء في هذه القصيدة نفس المتعة الجمالية و الفراسة السياسية و التوجيه الروحي الذي يسعى الاخرون للحصول عليه في ترانيم داود وسور القران والصلاة في كل الاديان: "هذا هو الوجود الحقيقي"
—CM
سؤال
يقول ويتمان ان جميع الافكار في هذه القصيدة هي "اللغز و حل اللغز"؛ ما هي الالغاز التي قدمها لنا ويتمان الى الان وما هي الحلول التي قدمها؟