توطئة
قالت والدة ويتمان في احد المرات بأن ويتمان طالما بدى من النوع الذي يحب التجوال هنا و هناك. تعليقها هذا يشير الى اساليبه الجوالية؛ لكن هذه الجملة تنطبق ايضا على تركيبة قصيدة "اغنية نفسي" حيث يحاول الشاعر ان يتوسع و يمتد الى تفاصيل الحياة حولها ليجرب الى أي مدى يكن لمشاعر التعاطف عنده ان تمتد قبل ان تختفي النفس البشرية و بعدها ينكمش مجددا ليقتصر احساسه على الذات فقط، معبرا عن ثقته بأنه يستطيع احتواء المجاميع التي استوعبها و التي تقوي النفس البشرية. المقط السادس عشر من القصيدة هو انكماش النفس البشرية بعد التوسع العظيم في المقطع الخامس عشر حيث تلك العينات العشوائية من المجتمع الامريكي اخذتنا في اعلى طبقاته وفي اسفله من الرئيس الى الغانية ، عبر الجغرافية الواسعة للامة، في المدينة و في الريف و في البرية ومن خلال تنوع الوظائف وعبر جميع الاعراق (مع كل المؤشرات التي تقول عن زيادة الخليط العرقي لأمريكا—الفتاة مختلطة الاعراق و المهجنين). ان قائمته التي استعرضها في المقطع السابق استطاعت ان تخلق نوع من الاحساس باختراق كل جوانب الحياة: المزارعون يزرعون و الصيادون يصيدون و يأكل الناس ما تم حصاده و ما تم قتله؛ الخياطون يخيطون و يحيكون و نرى بعدها ثوب العروس و اشرع السفينة نتاجا لعمل هؤلاء؛ الشباب يصبحون شيوخا و يصبح الحمقى حكماء؛ فعاليات كل شخص تغذي فعالية شخص اخر و نحن نتحرك حسب دقة الجابي و دقائق الساعات و الليل يأتينا و يغمرنا النوم. و الان في المقطع السادس عشر يتوقف الشاعر و ينكمش ليستوعب مجددا كل ما قد راه و سمعه و شعر به ثم يستخدمه ليجد تعريفا لنفسه.
ما قد بدا على انه عشوائي الانتشار يصبح الان متشابكا ليعطي تعريفا للهوية الذاتية: "انني من الشيب و الشيبان\ من الحمقى و الحكماء"، كما يقول الشاعر وهو يكتشف جميع الهويات الممكنة داخل ذاته. كل واحد منا لديه الامكانية ليكون غيره؛ أي هوية يمكن للامة ان تولدها يمكن ان تصبح ملكنا مع الاخذ بنظر الاعتبار الفروق البسيطة في مكان ولادتنا و الى أي حد اهلنا اغنياء و أي لهجة تعلمناها و ما هي الافكار الدينية التي يعتنقها اهلنا. و هكذا يدرك والت ويتمان بأنه "جنوبي و شمالي انا" لان التقسيم في امتنا ليس انقساما روحيا بل انقساما يستند على الخبرات. واذا استطعنا توسيع خبراتنا و نستوعب مختلف وجهات النظر، فأننا نستطيع عندها التغلب على التحيز و نرى حقيقة انه في الاصل نحن مشروع انسان نقي لديه العديد من الادراكات التي يجب استيعابها: "انني من كل قوم و جنس\ من كل طائفة و دين".
الخيال الديمقراطي يخترق جميع الحدود التي تقسمنا و يسمح لنا برؤية كيف ان هوياتنا الانسانية تتداخل فيما بينها، ليدع كل واحد منا يرى نفسه الفردية على انها ما يشكل تنوع الامة: كل واحد منا "واحد من امة بين امم عديدة، صغراها ككبراها". وهكذا يعطينا ويتمان اكثر تصريحاته راديكالية: "انني اقاوم كل ما هو افضل من تنوعي و انساني". الشيء الوحيد الذي سوف يحاربه و يقاومه هو أي شيء يوصي بالتحيز و يطلب منه ان يكون اقل من خياله الديمقراطي و اضيق من نفسه الديمقراطية. سوف لن يكون محشورا بين الاحساس بالغطرسة و الاهمية الذاتية ولن يكون معزولا فوق الجميع محشورا في وجود له امتيازاته دون غيره. بل سيكون في مكانه الطبيعي كما هي الشمس و الدودة في مكانهما، ذلك المكان المنفرد له هو—لا يشغله شيء اخر—وهو بخياله موجود في كل الاماكن الاخرى.
—EF
أننی من الشِیب و الشبان من الحمقی و الحکماء مُشیحٌ عن الآخرین ، متوجه الی الآخرین لي أمومة الأم ، و أبوّة الأب طفلٌ ورجلٌ ، أنا محشوٌّ بالخشن و الناعم واحدٌ من أمةٍ بین أمم عدیدةٍ ، صغراها ککبراها جنوبيٌ و شماليٌ ، أنا أعیش مزارعاً مضیافاً وقوراً عند « اوکونی » ویانکيٌ أنا ، أسیرُ متاجراً ، مفاصلي أوهن المفاصل ، و أقواها. و کنتاکيٌ أنا ، أسیر في وادي « الکهورن » محتذیاً رِقّ الغزال. لویزیانيٌ أنا. و جورجيٌ أنا. مراکبيٌ عبر البحیرات و الخلجان و الشواطیء. و صیادٌ لذوات الفراء في مربعي ، منتعلاً أحذیة الثلج الکندیة. أو في الغابة أو مع صیّادي السمک في « نیوفاوندلاند ». في مربعي ، في أسطول قوارب الثلج مبحراً مع الجمیل ، أو مثبّتاً الأشرعة. في مربعي ، علی تلال « فیرمونت » أو غابات « مین » أو مزارع تکساس. رفیق أهل کالیفورنیا رفیق أهل الشمال الغربي الأحرار رفیق أهل التطواف والوقّادین رفیق کل اولئک الذین یصافحون و یرحّبون ، حین یکون اللحم و الشراب. متعلمٌ مع الأبسط ، معلمٌ للأعلم بدایةٌ أولی ، لکنها خبرة آلاف آلاف الفصول انني من کل قوم و جنس من کل طائفة و دین مزارع – میکانیکی – فنان – سید – بحار – کویکريٌ سجین – عشیق – مشاکس – محام – طبیب – قسیس إنني أقاوم کل ماهو أفضل من تنوعي و انساني أتنفس الهواء ، لکني أخلف ورائي الکثیر منه إني لست مقیداً ، فأنا في موضعي الفراشة و بیوض السمک ، في موضعها و الشموس المعتمة التي لا أراها ، في موضعها المحسوس ، فی موضعه و غیر المحسوس ، فی موضعه.
أنتمي للعجائز والشبان، للحمقى والحكماء، ومهما كان شأن الآخرين، أحترمُ الآخرين دائماً، الآباء والأمهات على حد سواء، الطفل والبالغ أيضاً، مصنوعٌ أنا من المادة الخشنة ومصنوعٌ أيضاً من المادة الناعمة، واحدٌ من أمة مؤلفة من أمم كثيرة، أكبرها مثل أصغرها، لا فرق، جنوبيّ أنا وشماليّ أيضاً، مزارع رابط الجأش وكريم وفي بلدة "أوكوني" أعيش، يانكيّ بالفطرة، وطريقي جاهزة للتجارة، مفاصلي أكثر المفاصل رشاقةً على الأرض، وأقسى المفاصل على الأرض، كينتاكيّ أنا، أمشي في وادي إلكهورن، مسربلاً بجلد الوعول، وأنا من لويزيانا أو جورجيا، بحّار قوارب فوق البحيرات، أو الخلجان أو السواحل الطويلة، وأنا من إنديانا أو ويسكاونسين أو أوهايو. منتعلاً حذاء ثلج كندي، أو واقفاً هناك في أعلى الدغل، أشعرُ أنني في بيتي، وفي بيتي مع الصيادين قبالة سواحل نيوفاوند لاند، في بيتي وأنا أرافقُ أسطول قوارب الجليد، مبحراً مع الجميع، في بيتي على هضاب فيرمونت أو في غابات مين، أو مزارع تكساس، رفيق الناس في كاليفورنيا، ورفيق الناس في الغرب الشمالي الحرّ، (كم أعشق تناسقَهم الشاسع،) رفيقُ الرمّاثين وعمال المناجم، ورفيق كل من يصافح يداً ويدعوها إلى جلسة شربٍ ولحم، متعلّمٌ مع الأكثر بساطةً، ومعلّم للأكثر خشونةً، هاوٍ أبدأُ أبداً، لكنني مجرّبٌ خبَرَ تقلبات الفصول؛ من كل لون وطبقة أنا، من كل مرتبة ودين، مزارع، وميكانيكي، وفنان، ونبيل، وبحار، وصوفي، وسجين، وحالم، ومشاكس، ومحام، وطبيب، وكاهن. أرفض أي شيء يتجاوزُ تعدّديتي، أتنشّقُ الهواءَ، لكنني أترك الكثير منه لغيري، وأنا لستُ ساكناً، لكنني راسخٌ في مكاني. (العُثّةُ وبيوض السمك في مكانها، الشموس المضيئة التي أراها والشموس المظلمة التي لا أراها هي أيضاً في مكانها، الملموس في مكانه وغير الملموس أيضاً في مكانه.)
Song of Myself, Section 16 —poem read by Nadia Fayidh
خاتمة
وكل شيء له مكانه--الملموس و غير الملموس. و بالفعل هذه هي قنوات الاتصال التي من خلالها تجد ملكتي الملاحظة و الاكتشاف مستوياتها الصحيحة. الذي لا يستطيع ان يستوعبه العقل يشكل العمل الخيالي بالضبط لما يتم اختباره مباشرة. لكل شمس مشرقة تنير السماء هناك العديد من الشموس المظلمة في المجرات القريبة و البعيدة والتي ندور حولها دون ان ندري : في جانب هناك من يحاول دخول غرفة و في جانب اخر نتوجه الى مكان اخر. حقيقة اننا لا نعرف دائما لماذا نقوم بشيء معين دون غيره فأننا نذكر انفسنا بأننا نمضي في تيارات محددة في الكون وفي البحر المرسوم في القصيدة وهنا نتعلم بأن السفينة التي نركبها في بداية الزمان و التي نسميها "التنوع".
كل جيل من قراء ويتمان يعايشون ظواهر جديدة و يرسمون بشكل جديد خريطة العالم داخل و خارج ارواحهم ويقومون برحلات من المرئي الى اللامرئي ثم يعودون الى البداية وفي سرعة منفردة بالعصر و سياقه التاريخي. الشاعر "من كل صنف ودين " الاحمق و الحكيم من الشمال و الجنوب و من سنة المدينة و البرية و من الشباب و الشيوخ ؛ تضمين كل الاشخاص في مخطط الاشياء يساعدنا في تعميق قدرتنا على التعاطف مع كل شيء حولنا ونضع انفسنا في مكان اعدائنا: فنحن جميعا في هذا الكون سوية. "لكي نعرف مكاننا "هي عباره يستخدمها الشاعر دون ان يقصد بها اي اساءة. هذه هي الطريقة التي يساعدنا بها للوصول الى المرحلة الثانية من الرحلة--وهي مهمة العمر.
—CM
سؤال
في ثقافتك هل هناك من يقترب من تحقيق رؤية ويتمان الموسعة للهوية الذاتية، ويقترب من الاحساس بها بعيدا عن الانقسامات الاجتماعية و الفروقات في الجنس و الاعراق؟ هل هناك من شخصيات تاريخية او معاصرة تبدو على انه حققت مثل هذه الرؤية؟