توطئة
مع استعراض حياته و كيف عاشها من "اللدانة اليافعة" في فترة شبابه الى "الرجولة، المتزنة، المزهرة، الممتلئة!" الى التقدم في السن، مباشرة نحو "الجلال المقيم للأيام المحتضرة" ، يدرك الشاعر بأن كل حياة منفردة تبدأ التحول اللامتناهي للزمن. يذكرنا هنا بأنه ليس هناك من شيء ثابت و لا يتغير؛ فكل شيء هو تحول آني و بالنظر الى حياتنا المتغيرة—من المهد الى اللحد—فأننا نفهم السر الغامض للتغير المادي. يغذي هذا التغيير تفاعلنا المستمر مع العالم من حولنا، من اول مواجهة لنا معه و حتى اخر لحظة لنا فيه، من اول شيء نبتلعه الى اخر نفس نستنشقه. يقول يوتمان "عشاقي يكتمون انفاسي" و اولئك العشاق—من العث الذي يقطن في جلده الى الغرباء الذين يضايقونه في الشارع و حتى العاشق العاري في الليل—جميعهم يغيرونه و هم يدخلون او يضايقون او يقبلون جسده. لفظة "يكتمون انفاسي" حرفيا تعني "اسفل البلعوم" . ان قصيدة "اغنية نفسي" هي من قصائد التي تأخذ الانفاس حيث جميع الاشياء التي حول الشاعر يبتلعها (استذكر المقطع 33 حينما يقول ويتمان "كل هذا ابتلعه، ان له طعما جيدا، انه يصبح لي..." و حيث يأخذ جسمه الاشياء المتنوعة خارج الذات من خلال حواسه و بعدها تصارع من اجل الخروج من بلعومه حيث يحاول اعطاء صوت لكل شيء.
يؤكد ويتمان هنا "لا يعلن كل ظرف نفسه، حسب،\ أنه يعلن كذلك ما يأتي بعده، و منه" مستخدما لفظة "يعلن" (و التي تعني اصلا "طرح الشيء للعلن" او "النشر" او "تحقيق الظهور"): فأي حدث او شيء او شخص يظهر في الوقت الحالي لا يظهر نفسه فقط، و يظهر في العالم المادي فقط، لكنه يحتوي ايضا كل شيء سوف يتغير اليه. لا يمكننا رؤية التحولات المستقبلية، لكن يمكننا ان نكون واثقين بأنه سيكون هناك تحولات و مهما الذي سيظهر من الاوضاع الحالية هو موجود اصلا فيها. حتى "الصمت المظلم"—سر الصمت الغامض ذاته—يحتوي على اصوات المستقبل. و في النهاية، كلماتنا التي نقولها و التي نكتبها تظهر من هذا الصمت: هذه هي معجزة اللغة.
يختتم ويتمان هذا المقطع من خلال الاستذكار مرة اخرى الكون الكبير الذي افتتحه امامنا علماء الفلك: مهما نبتعد في الكون، فأن هناك كونا اخرا (يقول الفيزيائيون اليوم بأن هناك عدد لا ينتهي من الاكوان الاخرى) . ببساطة لا يمكننا التنقل في الزمن و المكان لدرجة اننا نصل الى نهاية الكون. فالكون الذي يتحدث عنه ويتمان ليس له بداية او نهاية لكنه كونا مستمرا دون حدود. لا يمكن ان يكون فيه توقفا. حتى لو تخيلنا نهاية للعالم تصغر كل ما هو موجود ليصبح "طوفان شاحب" فأن قوى الحياة و التحول و التطور سوف تبدأ بالعمل من جديد في هذا الطوفان للمادة و خلال عدد لا متناهي من العصور سوف ينتج عالم جديد و بداية جديدة.
نضم في انفسنا، اذا، ذلك المستقبل الكبير الذي لا يمكننا حتى تخيله. في نسخته الاصلية انهى ويتمان هذا المقطع ببيت يقول "موعدنا محدد مؤكد سيكون ربنا هناك منتظرا قدومنا". لكنه غير النهاية ليجعل الكون الكبير اكثر شخصية و حميمية: فسيد ويتمان هو القائد العظيم، هو رفيق السرير و العاشق الذي يشتاق اليه، مهما كانت مواد الحاضر سوف تصبح في المستقبل، سوف تكون مرتبطة بنا لأنها كانت فينا بصورة فعلية.
—EF
آهٍ أيها الشباب ، أيتها اللدانة المندفعة ! آهٍ أيتها الرجولة ، المتّزنة ، المزهرة ، الممتلئة ! عشاقي يكتمون أنفاسي يزدحمون على شفتيّ وينغرزون في بشرتي ويدافعونني في الشوارع والقاعات العامة وياتونني في الليل عراة . في النهار ينادونني ، آهُوي ! … من صخور النهر متمايلين ، لاغطين ، فوق رأسي منادين باسمي من مساكب الزهر ، والكروم ، والأغصان المتشابكة مضيئين كل لحظة من حياتي مقبّلين جسدي قبلاً بلسمية ناعمة مقدّمين لي - دون صوت - حفنات من قلوبهم … أيها العصر القديم ، الناهض مرحباً بالجلال المقيم للأيام المحتضرة ! لايعلن كل ظرف عن نفسه ، حسب إنه يعلن كذلك مايأتي بعده . ومنه . في الليل أفتحُ كوّتي وانظر الى المنظومات الكونية المنتشرة بعيداً فإذا كل ماأراه - ولو ضاعفته قدر ماأستطيع - لن يبلغ إلا حافة المنظومات الأبعد إنها تتّسع ، وتزيد اتّساعاً إنها تتّسع أبداً … أبداً . لشمسي شمسها التي تدور حولها وتنضم الى شريكاتها في دورة أسمى وتتبعها مجاميع أعظم تجعل من العظيم في داخلها ذرّةً تافهة . ليس هناك توقفٌ ، ولن يكون ثمة توقفٌ وحتّى لو تحوّلنا هذه اللحظةَ : أنا وأنت - والعوالم وكل مافوق اللأَرضين وتحتها ، الى طوفان شاحب … فلن ينفع الأمرُ شيئاً فلسوف نعود ، مرة أخرى ، كما كنّا ولسوف نتقدّم - أكثر فأكثر فأكثر . صعّدْ بصرك ، قدر ماتستطيع : ثمّة مكان لايُعَدُّ . موعدي محدد مؤكد سيكون سيّدي هناك منتظراً قدومي ، راضياً مرْضياً وسيكون هناك الرفيق العظيم العاشق الحق ، الذي اليه أتوق .
آهٍ يا عمرَ الشباب! أيتها الرّشاقة المندفعة أبداً! أيتها الرّجولة، المتوازنة، المتألّقة، التامّة! عشّاقي يغرقونني، يتهافتون على شفتيّ، يسدّون مسامات جلدي، يغرّرون بي في الشوارع والقاعات العامة، يأتون عراةً في الليل إليّ، ويصيحون نهاراً، مبتهجين، من أعالي صخور النهر، متمايلين، ضاجّين، فوق رأسي، ينادون باسمي من تحت مساكب الزهر، والكرمة، والأغصان المعرّشة المتشابكة، مشعلينَ كلّ لحظةٍ من حياتي، مقبلّين جسدي قبلات بلسمية ناعمة، مقدّمين لي-بصمت- حفناتٍ من أرواحهم لتكون لي. أيتها الشيخوخة الناهضة بكلّ رفعة! أهلاً بكِ، أنتِ أيتها البهاء الذي لا يوصف للأيام المحتضرة! الحالة لا تفصحُ عن نفسها فقط، إنها تفصح عمّا يولد منها وما يأتي بعدها، والسكونُ الدّاكن لا يقلّ إفصاحاً. أفتحُ كوةَ سفينتي في الليل وأرى الأفلاكَ المشعّةَ النائية، وكلّ ما أراه، وما أتخيّله من كثرة مضاعفة، لا يصل حوافّ تلك المدارات البعيدة. إنها ما تفتأ تنتشرُ أوسع فأوسع، تمتدّ، ودائماً تمتدّ، وتسبح دوماً في الفضاء، وتتوسّع. لشمسي شمسُها التي تدور مطيعةً حولها كالعجلة، وتنضمّ، مع شريكاتها، إلى مجموعة من الأفلاك الأعلى، وتتبعها مجموعاتٌ أعظم، تجعلُ أعظمَ الشموس داخلها ذرّاتٍ فحسب. ليس هناك توقّفٌ، ولا يمكن أن يكون هناك توقّفٌ، وإذا كنتُ أنا، وأنتَ، والعوالم، وكل ما تحتها أو فوقها، ستتحوّل، في هذه اللحظة، إلى سرابٍ أصفر، فهذا لن يفيدَ على المدى البعيد، لأننا سوف نولد من جديد حيث نقف الآن، ولسوف نمضي قدماً إلى الأمام، أبعد فأبعد. بضعُ ملايين من الِحقَب، أو بضع مليارات من الفراسخ المكعّبة، لن تؤّثّر على الدورة الكونية أو تحرفها عن مسارها، هذه ليست سوى أجزاء، وكلّ شيء ليس سوى جزء. حدّق دوماً في البعيد، ثمة مكان لامتناهٍ خارج ذلك، واحصِ دوماً ما تشاء، ثمة زمانٌ لامتناهٍ حول ذلك. لقد حُدّدت رحلتي، وهذا مؤكّد، سيكون الربّ هناك، وسوف ينتظرني حتى أجيء وفقاً لشروط مثالية، وسيكون هناك الرفيق الأعظم، العاشق المخلص الذي أصبو إليه.
Song of Myself, Section 45 —poem read by Nadia Fayidh
خاتمة
يمتد الزمان و المكان و ينهاران في فعل الحب؛ الشيء الوحيد الثابت في الزمن و خلال الحياة و في العصر هو قانون الجاذبية الانساني الذي يطيعه الجميع، انه جذوة الرغبة في كل تاريخ العالم و مختلف اجزاءه: وهو الفكرة الاساسية للشعر. يتتبع ويتمان في مقطعه هذا الاحساس من خلال خبراته—العشاق يكتمون انفاسه يستدعونه مثل العصافير مضيئين كل لحظة في حياته من الشباب و حتى الكهولة و ما بعدها؛ في رؤيته للكون المتوسع على الدوام فأن النجوم التي يراها من نافذة غرفته هي مجرد دلالات صغيرة على الاكوان البعيدة التي يسكنها.
ونحن كذلك. مع اول لقاءنا بالصمت المظلم، ذلك الفراغ، فأننا ندرب انفسنا على منطق الكون الذي لا نفهمه فعلا. عندما كنت طفلا في غرفة الطعام في بيت جدي في ماري لاند، كنت ارى المرأب يمتلأ بالمرضى القادمين للعلاج في المساء. جدي طبيب البلدة، كان يترك المائدة قبل ان يتناول الحلوى للذهاب الى عيادته في القبو و بالرغم من انني لم اعرف ذلك اليوم معنى الام الرجال و النساء و الاطفال المنتظرين في حجرة الانتظار الا انني شعرت بالخوف يتسلق السلالم، خوفا لم يتركني ابدا. و عند عودته بعد عدة ساعات، كان جدي يجلس في المطبخ يأكل الجبن و هو يتحدث عن الناس التي عالجها للتو: يروي قصصا اصبحت هي ملاذي ضد هذا الخوف.
مثل هذه القصص هي مجرد اجزاء كما كان ويتمان ليقول حيث ان كل شيء هو مجرد جزئية. اريد الاعتقاد بأنه في الحياة القادمة التي يراها شاعرنا موجود في اللحظة الحالية، بأن الرب و العاشق الفعلي لمن يتوق اليه. اتمنى ان لا يكون هناك توقف و ان من لدانه الشباب سوف تظهر الكهولة في اجسادنا قبل ان تحين النهاية؛ وان ما هو موجود امامنا في اللحظة في هذا المكان: الزمان و المكان غير المحدودين. هنا سوف انتظر و سأظل انتظر و لطالما انتظرتك.
—CM
سؤال
في هذا المقطع يشير ويتمان الى شبابه على انه "اللدانة المندفعة". كيف يكون الشباب مرنا ؟ ما هي مضامين الصورة التي يرسمها ويتمان هنا عن الشباب؟